الموضوع: الرشوة ـ هدايا العمال سُحت
الخطبة الأولى
الحمد لله، غمرنا بره وإنعامه، وتتابع علينا
فضله وإحسانه، خلقنا ورزقنا، وهدانا وعلمنا، وكفانا وآوانا، ومن كل خير أعطانا.
أحمده كما ينبغي له أن يحمد، وأشكره فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له؛ أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله
حجة بعد الرسل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر،
وأحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، ووضع عنا الآصار والأغلال التي كانت على من
قبلنا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم
الدين.
أما بعد: فيا أيها
الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فيا سعادة من اتقاه، ويا فوز من خافه في
سره ونجواه، ويا فلاحَ من لم يزل بطاعته قائماً، وعن معصيته متباعداً ومتجانبا. واعلموا ـ
عباد الله ـ أن على المؤمن التبصُّر في عواقب الأمور، وليعلمْ أن البركةَ في الطيّب
النافع، وقد أمر الله المرسلين بالأكل من الطيبات فقال: "يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَـاتِ". المؤمنون:51 ، وأمر المؤمنين بقوله:
"يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ".
البقرة:172، والطيّب ما أبيح وحلّ استعماله، والخبيثُ ما حرِّم وحرم تناولُه.
ألا و إنَّ مِن أكل الخبيث ومن المكاسب الخبيثة
المحرمة، أخذَ الرشوة، وهي داءٌ عضال، ومرضٌ فتَّاك في مجتمع المسلمين، وبلاءٌ عليهم عظيم..
الرشوة أسلوب من أساليب الإحتيال لاستلاب حقوق الآخرين، وحرمانِ المستحقين
من حقوقهم الثابتة، أو التي يجب أن تثبت لهم، وهي بفتح الراء أو كسرها (الرِّشوة)،مأخوذة
من الرشا أو الرِّشاء، وهو: الدلو، أو الحبل الذي يدلى في البئر من أجل الحصول علي
الماء أو غيره..
فهذا المرتشي يمد للحاكم أو لموظف ما، حبال مودّته الكاذبة من أجل
أن ينال ما
يريد منه بأيسر طريق، وأخسّ وسيلة، غير مبال بما يترتب علي ذلك من
العواقب
المهلكة، والجرائم المزرية بالأخلاق والقيم.
فبالرشوة يفلت المجرم، ويدان البريء، بها يفسد
ميزان العدل الذي قامت به السموات والأرض، وقام عليه عمران المجتمع، الرشوة هي المعول
الهدام للدين والفضيلة والخلق.
فبالرشوة يطمس الحق، أو يسكت على الباطل، أو يقدم
المتأخر أو يأخر المتقدم، أو يرفع الخامل، ويمنع الكفء، بالرشوة تتغير الشروط، ويخل
بالمواصفات، ويعبث بالمناقصات، في أغراض لا تتناهى، بالرشوة يُحكم على من ليس ثقة بأنّه ثقة،
وبالرشوة يُحكم على الفاجر بأنه أتقى الناس، وبالرشوة تُظلم الأمة في مصالحها
العامة والخاصة، ولا يرضى بذلك مسلم يخاف الله ويتقيه، وهو ينظر إلى آثارها وأضرارها
ومساوئها.
عباد الله: لقد حرَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
الرشوةَ، ولعن باذلَها، ولعن آخذَها، ولعن الواسطةَ بين الباذل والآخذ، تحذيرًا
للمسلمين من شرّها، وإبعادًا لهم من ضررها، وحمايةً لدينهم، وحماية لأموالهم،
وحماية للمجتمع عمومًا، ففي سنن أبي داود، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله
عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله
الراشي والمرتشي"، واللعن حقيقتُه الطردُ والإبعاد من رحمة
الله، فجعل باذلَ الرشوة ملعونًا، وجعل آخذَها ملعونًا، ويُروى في بعض الألفاظ: "ولعن الله
الرائش"، أي: من كان واسطةً بين الاثنين.
ففي هذا الحديث ما يدل على أن ديننا الإسلامي
الحنيف لا يسمح بالرشوة، وينفر من الاشتراك فيها، لأن الرشوة تشوه سمعة صاحبها في
الدنيا، وتعرضه لغضب الله وعذابه يوم القيامة، بما يعني أن الرشوة في نظر الإسلام
جريمة لا يليق بالمؤمن أن يرتكبها، أو يشترك فيها، أو يرضى بها، أو يسكت عنها.
إنَّ الرشوةَ داءٌ خطير ومرض عضال، وفساد يسري
في مجتمعات المسلمين، فيحدث شرًّا وبلاءً. إنَّ الباذلَ لها أعان على الإثم
والعدوان، وإن الآخذ لها ساهم في تنفيذ هذا العدوان وهذا الشر والبلاء.
روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي رضي
الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد، فلما قدِم قال: هذا
لكم وهذا أُهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله
وأثنى عليه وقال: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟! أفلا قعد
في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيُهدَى إليه أو لا؟! والذي نفس محمد بيده، لا
ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه". الحديث.
قال الخطابي رحمه الله: "في هذا بيان أن هدايا العمال سُحت، وأنه ليس
سبيلها سبيل الهدايا المباحة، وإنما يُهدى إليه للمحاباة، وليخفِّف عن المُهدي،
ويُسوِّغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة منه، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه
لأهله". انتهى.
فيا مَن جعَل الله حَاجاتِ الخلقِ عِندهم:
احذَروا أن
تَضطرّوا عباد الله لما لا يُحمَد شرعًا، ولا يُرتَضَى طبعًا، من كثرة التَّرداد
والإلحاح والإستجداء، أو التنازل عن عزته وكرامته، أو دفع الرشاوى المحرمة،
فتبوؤوا بالإثم والغضب من الله جلا وعلا، جاء عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه،
أنه قال: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منَعوا الحقَّ حتى اشتُرِي، وبَسَطوا
الجورَ حتى افتُدِي".
أيها المسلمون: لقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله، لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه، إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا
أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر"،
ثم رفع يديه حتى رُئي بياض إبطيه يقول: "اللهم هل بلغت؟". وراه البخاري
ومسلم.
ففي هذا الحديث ـ يا عباد الله ـ وعيد شديد لمن يستغلّ نفوذه ويستبيح لنفسه أن
يأخذ ما لا يحل له أخذه، وإن ألبسه أثوابًا مستعارة كالهدية والوساطة أو القهوة، أوغير
ذلك، فهذا خيانة في الأمانة، وسحت لا يبارك الله له فيه ولا في نفسه ولا في أولاده،
ولا عائلته ولا إنفاقه ولا مأكله ولا مشربه، فكل جسم نبت من حرام فالنار أولى به.
فالله.. الله.. حافظوا على دينكم وأمانتكم، وابتعدوا عنِ كلّ ما يغضب ربكم،
واجتنبوا الحرام الذي يدمّركم ويدمّر بلادكم، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
هذا،
والله المسئول أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويغفر لي
وللمسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين..
الخطبة الثانية
الحمد لله الملك
الكريم الرزاق، يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، ويمتحن بالمال والأولاد.
سبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم، أحمده وأشكره على نعمائه، وأثني عليه الخير
كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده
ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه جميعًا، توبوا إلى الله توبة نصوحًا،
عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
عباد الله: جاء في سنن الترمذي بإسناد صحيح، قال رسول صلى الله عليه وسلم: "يا كعبَ بنَ عُجرةَ، إنه لا يربُو ـ أي لا
ينمو ـ لحمٌ نبت من سُحت إلا كانت النارُ أولى به"، وفي رواية أحمد: "لا
يدخل الجنةَ لحمٌ نبت من السحت، وكل لحمٍ نبت من السحت كانت النار أولى به".
والله، إن هذا لحديث خطير، من أحاديث الوعيد التي يرتجف لها القلب الحيّ، "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ
لَهُ قَلْبٌ". ق:37. وكثيرٌ منا يتلقى
مثلَ هذا الحديث الصحيح ببرود، بسبب برود الإيمان وضعف اليقين.
يا عبد الله، إذا كنت لا تبالي بمثل هذا الوعيد فهلا راعيت فلذات كبدك وتحرّيت
الحلال من أجلهم؟! لقد كانت المرأة في السلف الصالح حريصة أن لا تأكل هي وأبناؤها
إلا الحلال خوفًا من هذا الحديث، فكانت الواحدة منهن توصي زوجها وهو ذاهب إلى عمله
قائلة: يا أبا فلان، إننا نصبر على ألم الجوع، ولا نصبر على ألم عذاب الله، فاتق
الله فينا. أين النساء اللاتي يذكّرن أزواجهن في هذا الزمان بتحري الحلال؟!
فاحذروا ـ يا عباد الله ـ أن تطعموا أنفسكم وأولادكم الحرام، سواء كان غِشًا
أو سرقة أو اختلاسًا أو رشوة وغير ذلك، واقتدوا بالسلف الكرام؛ بالحذر من أكل
الحرام، فلقد كانوا يتركون تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام، وإن من أعجب ما
سمعته، ما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن زيد بن أرقم قال: كنت عند أبي بكر
الصديق فأتاه غلام له بطعام، فأهوى إلى لقمة فأكلها، ثم سأله: من أين اكتسبته؟
قال: كنت قينًا لقوم في الجاهلية فتكهنت لهم فأعطوني، فقال: أف لك؛ كدت أن تهلكني،
فأدخل يده في فيه وجعل يتقيأ حتى رمى به، فقيل له: كل هذا من أجل لقمة! قال: لو لم
تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما لحم
نبت من حرام فالنار أولى به".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ
لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
". البقرة:188.
أسأل الله أن يعصمَني وإياكم من الحرام وطرقه ووسائله، اللهم
أغننا بحلالك عن حرامك، اللهم إنا نسألك رزقًا واسعًا وحلالاً طيبًا، اللهم ارزقنا
صحة لا تلهينا وغنىً لا يطغينا. اللهم خلصنا من مظالم أنفسنا، ومظالم كل شيء قبل الموت،
ولا تمتنا ولأحد علينا مظلمة يطلبنا بها بعد الموت، وإذا قضيت بالموت فاجعله على
توبة نصوح، بعد الخلاص من مظالم أنفسنا ومظالم العباد. اللهم الف بين قلوبنا وأصلح
ذات بيننا واهدنا سبل السلام، ووفق ـ اللهم ـ ولي أمرنا لما تحب وترضى
وهيء له البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه. اللهمَ أعزّ
الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك
الموحّدين، واجعل اللهمّ هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في
قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق