13 أبريل 2016



 الموضوع: بمناسبة يوم العلم ـ نَمْ ـ ابن باديس ـ هادئا فالشـعـب بعدك راشـــــدُ 



                                            الخطبة الأولى
 الحمد لله الذي أعلى مراتب العلماء، وجعلهم ورثة الأنبياء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العليم الخبير. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير، أمره ربه بطلب الزيادة من العلم، فقال تعالى: "وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً". طه: 114. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
       أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، فتقواه سبحانه وتعالى سببٌ موصلٌ للعلم، الذي هو سُلَّم النجاة بإذن الله، قال تعالى: "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ". البقرة: 282.

عِلْمُ العَلِيمِ وَعَقْلُ العَاقِلِ اخْتَلَفَا *مَنْ ذَا الَّذِي مِنْهُمَا قَدْ أَحْرَزَ الشَّرَفَا
فَالعِـلْمُ قَالَ أَنَا أَحْـرَزْتُ غَايـَتَهُ * وَالعَقْلُ قَالَ أَنَا الرَّحْمَنُ بِي عُرِفَا
فَأَفْصَـحَ العِلْمُ إِفْصَاحًا وَقَالَ لَهُ * بِأَيِّــنَا اللَّهُ فِـي قُرْآنِــهِ اتَّصــَفَا
فَبَـانَ لِلعَــقْلِ أَنَّ العِـلـمَ سَيِّــدُهُ * فَقَبَّلَ العَقْلُ رَأْسَ العِلْمِ وَانْصَرَفَا

       أيها المسلمون: لقد رفع الله تعالى شأن العلم وأهله، وبيّن مكانتهم، ورفع منزلتهم، فقال سبحانه وتعالى: "يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ". المجادلة:11. ولم يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء إلا من العلم، فقال له سبحانه وتعالى: "وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً". طه:114، وما ذاك إلا لما للعلم من أثر في حياة البشر، فأهل العلم هم الأحياء، وسائر الناس أموات.
ما الفخــــر إلا لأهل العلم إنهم * على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * والجاهـلون لأهل العـلم أعداء
فـفـز بعلم تعش حيـا ً به أبــدا * الناس موتى وأهل العلم أحياء

    وها هي الجزائر المحروسة بعناية الله، تحيي يوم العلم الذي يصادف كل عام: 16 أبريل، وتأتي هذه المناسبة تخليدا لذكرى وفاة باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر، وواضع أسسها على صخرة الحق، الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد ابن باديس، أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين..
   ولد الشيخ رحمه الله بمدينة قسنطينة في 4 ديسمبر 1889م وتوفي يوم:16افريل1940م، وترك بصماته العميقة الأثر، فصورته ـ رحمه الله ـ من الصعب محوها من ذاكرة أبناء الجزائر، وأصعب من ذلك أن تُحصَر مميزاته الشخصية، وقدراته العقلية والنضالية، ومواقفه الفعالة تجاه أوضاع الأمة ومجريات أحداث تاريخها، هو المعلّم المثالي والمناضل المستميت في الدفاع عن عزة شعبه وترسيخ مبادئ دينه..
   لقد سأله يوما أحد طلبته: لم لا تؤلف الكتب أيها الشيخ؟.
فأجابه رحمه الله: "إن الشعب ـ يا بنيّ ـ ليس اليوم بحاجة إلى تأليف الكتب، بقدر ما هو في حاجة إلى تأليف الرجال.. هَبْ أني انصرفت إلى التأليف، وانقطعت عمّا أنا بصدده من نشر العلم، وإعداد نشء الأمة، فمن يقرأ كتبي وتآليفي.."؟.
  وكذلك كان رحمه الله، فلقد قضى حياته مؤلفا للرجال، لا يرجو من ذلك شهرة، ولا يبغي من ورائه جزاء من البشر ولا شكورا؛ وإنما قام بها أداءً للمسؤولية، وقيامًا بالواجب نحو دينه ووطنه وقومه، بعدما استيقن مما يـُكاد لهذا الدين من محوٍ، ولهذا الوطن من إدماج، ولهذا الشعب من سلخٍ عن أصله وهويته.
   لقد تصدى رحمه الله بكل قوة للمخططات الفرنسية الهادفة إلى طمس هوية الأمة، ودخَل في سباق مع فرنسا، فسبقها، وانقلبت على أعقابها خائبة خاسرة لم تنلْ خيرا، ويَذكُر التاريخ أنه في اليوم الذي توفي فيه رحمه الله، أقامت فرنسا الأفراحَ ابتهاجا بموته، وقال قائلها: "آن لفرنسا أن تطمئن على بقائها في الجزائر، فقد مات ألدّ أعدائها"!.
   فارتجل شاعر الثورة – محمد العيد – مخاطبا ابن باديس في رائعته وهو واقف عند قبره، يقول في مطلعها:
يا قبر طبت وطاب فيك عبير *  هل أنت بالضيف العزيز خبير؟
هذا ابن باديس الامام المرتضى  * عبد الحميد إلى حماك يصير
إلى ان يقول رحمه الله:
نم هادئا فالشـعـب بعدك راشـــــدُ * يختط نهجك في الهدى ويسيرُ
لا تخش ضيعة ما تركت لنا سدى * فالـوارثون لما تركت كثيرُ
    وعلى هذا الأساس لم يُختر يوم مولده، ولا يوم تأسيسه لجمعية العلماء يوما للاحتفال بيوم العلم، وإنما اختير يوم وفاته، وكأننا بهذا الاختيار نقول لفرنسا: أنه لا داعيَ لئن تفرحي بموت ابن باديس؛ فالعلم الذي قهرك به لم يمت بموته، بل ورثته الجزائر برمتها، وعلى أسسه قامت الثورة التحريرية المباركة، قال عنه الشيخ العربي تبسي رحمه الله: "لقد كان الشيخ عبد الحميد هو الجزائر، فلتجتهد الجزائر الآن أن تكون هي الشيخ باديس".
   أيها الكرام: إن ابن باديس لم ينجح في تعزيز الهوية في قلب أمته فحسب، بل ساهم في تكوين جيل الثورة الجزائرية، الذي قال عنه:
يا نشء أنت رجاؤنا * وبك الصباح قد اقترب
خـذ للحــياة سلاحــها * وخذ الخطوب ولا تهب
     وهكذا بعد مرور 14 عام على وفاته اندلعت ثورة التحرير الجزائرية، والتي قادها ذلك النشء الذي تتلمذ ودرس في معاهد الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكان الله معهم، وكان إيمانهم به عظيما، وكان صبرهم جميلا، فصدقهم الله وعده، وفرح الجزائريون بنصر الله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..
   فرحم الله العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد النهضة والإصلاح في جزائر الشهداء، وجزاه عنا خيرا، ورحم الله رفاق دربه، وقادة العمل الوطني الجزائري وفي مقدمتهم شهداء ثورة نوفمبر الخالدة، وحمى الله الجزائر من كيد الكائدين، ورفعها ورفع أهلها بين الأمم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..

الخطبة الثانية
   
 الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله الأعز الأكرم،   وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى السبيل الأقوم، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
      أما بعد، أيها المسلمون: إنما الأمم برجالها علماءَ كانوا، أو ساسة، أو قادة، إنهم هم الذين يجسّدون روحها التواقة إلى الكمال وجلائل الأعمال، هم النبراس الذي ينير لها الطريق إلى الحياة الحرّة الكريمة، وهم الذين يحركون فيها الشوق إلى غد أفضل ومجد أكمل، هم النموذج الـملهٍم الذي ينبغي أن نقدمه لناشئتنا لتتأسّى به وتنسج على منواله في خدمة هذه الأمة والتمكين لها، وفق الله الجزائر شعبا وقيادة للعمل على ذلك، والسير على خطى الإمام ابن باديس، وجميع أسلافنا الـميامين، الصالحين الـمصلحين..
     وإني بهذه المناسبة، وبها يحلو الحديث لأولئك الذين شُرّفوا بأعظم مهمة وأسما وظيفة، أعني المعلمين والأساتذة ومعدّي مناهج التعليم، فأقول لهم:
    هنيئا لكم شرف الرسالة ونبل المهمة، وإنه لا أحد ينكر أن وظيفتكم من أشرف الوظائف وأعلاها، ولا تساويها مهنة في الفضل والرفعة، ولعل الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه يبين لنا فيه فضل تعليم الناس الخير، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير". والآيات والأحاديث في ذا الباب أكثر من أن تحصى.   
  فكونوا على يقين بأنّ الأمانةَ كبيرةٌ، والمسؤوليّة جسيمة، كيف لا، وهي أمانةُ تربيّةِ النّشء وتعليمهم وتوجيههم؟!.
   هذا النشء الذين هم اليوم صغار، وغَدًا سيكونون كبارا، هم اليوم طلاَّب وغدًا معلِّمين وخبراء ومهندِسين وأطبّاء وأهل عِلمٍ وفضل، وهم الذين سَينزلون في ميادينِ العَمل، فكونوا لهم كما كان عبد الحميد بن باديس، واعلموا أن عليكم لأمتكم ومن يتعلمون منكم حقوقا عظيمة، فقوموا بها لله مخلصين وبه مستعينين، ولنصح أبنائكم ومن يأخذون العلم عنكم قاصدين، اخلصوا في التعليم، وامتثلوا أمام طلبتكم بكل خلق فاضل كريم، فإن المتعلّم يتلقّى من معلّمه الأخلاق، كما يتلقى منه العلوم.
وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة  * جاءت على يديه الأبصار حولا
    وأنتم ـ يا أبنائي ـ على مقاعد الدرس والتحصيل، وفي جوّ العلم ومحرابه المقدّس، فاحرصوا على طلب العلم لغاياته الكريمة وأهدافه السامية، والتي تعود عليكم كأفراد بالخير والإستقامة والرفعة، وعلى أمتكم بالتقدم والرقيّ والإزدهار، ولنقل جميعا: نم ـ ابن باديس ـ هادئا فالشـعـب بعدك راشـــــدُ    
     رحم الله الشيخ الجليل عبد الحميد ابن باديس وجزاه خيرا على ما قدّم للدين والوطن والأمة، ورحم رفاق دربه ومن حمل لواءه إلى يوم الدين، اللهم خذ بأيدينا، وسدّد خطانا، وحقّق آمالنا، ومكِّن لناشئتنا من أسباب الرقي والسؤدد ما يجعلهم خير خلف لخير سلف.. وافتح قلوبنا وقلوب أبنائنا للعلم والمعرفة، واجعل النجاح حليفهم يا رب العالمين. اللهم وبارك في الجزائر، أرضِها وسمائها وأكثر خيرها في بَرِّها ومائها، واجعلها بلدا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق