الموضوع: سلالة من البشر ولكنهم احترفوا "النفاق".
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قالها وعمل بها له دار السلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من صلى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، ومن سار على نهجه واستقام.
أما بعد، عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، ولزوم
أمره، واستحضار قوله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد". فصلت: 46.
قال صلى الله عليه وسلم: "مثَلُ المنافق كمثل الشَّاة
العائِرَة بين الغنَمَين، تَعِير إلى هذه مرَّة، وإلى هذه مرة". رواه مسلم.
الشاةالعائرة:
المترددة الحائرة لا تدري لأي قطيع تتبع، ومعنى تَعير أي: تردّد وتذهب. وصدق الله
إذ يقول: "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد
له سبيلاً". سورة النساء: 143.
أيها المسلمون:
لا يخفى على عاقل أن كثيرا من المخادعين والمنافقين يتزاحمون في كادر الحياة يدفع
بعضهم بعضا، ويتحالف ضعيف الحيلة فيهم مع من هو أكثر خبثا ودهاء، يحسبهم الجاهل
أنهم مخلصون وأصحاب نوايا سليمة من شدة تملقهم وخبث نفاقهم.. أعني أولئك يعرفون في الأدبيات السياسية بـ"المتملّقين"
أو "المتسلقين" أو "المتزلّفين"
أو"الوصوليين" أو "الانتهازيين"، وبلغة بن باديس رحمه الله:
"بني وي وي"، وبالعامية "بوزوج وجوه.."
"وما يخدعون إلا أنفسهم ولكن لا يشعرون".
للأسف.. هم كثر في مجتمعاتنا ـ كقطع النقود يقضون أعمارهم بين
جيوب الناس، وعلى أبواب المسؤولين وذوي الجاه، حربائيون متلونون حسب المعطيات والمواقف
والمصالح.. هم سلالة من البشر ولكنهم احترفوا "النفاق".
فهذا يتملَّق مدير عمله، ويكذب عنده له أو عليه إمَّا خوفاً
وإمَّا طمعاً، ويسكت عمَّا يرتكبه من أخطاء، مصانعةً ومداهنةً!.
وذااك ينتصر للظَّالم ويؤيِّده ويدعم سلوكه السَّيئ ولا يقدم
له النُّصح ولا يبيِّن له خطأه!.
وهؤلاء يمدحون شخصاً ويُكثِرون الثَّناء عليه في حضرته، فإذا
تولَّوا عنه سلقوه بألسنة حداد!.
وأولئك يبالغون في المديح المزيَّف لذوي النُّفوذ من
السِّياسيين أو الأعيان تملُّقاً وتزلُّفاً للتمسك بمصدر بئيس للاسترزاق!.
وما هذا كله إلا بسبب ضعف التدين وقلة الورع، والفتنة بزينة
الدنيا والغفلة عن الآخرة، وقلة إحترام حقوق المسلمين..
يُذكَر أنه في زمان الخليفة المهدي رحمه الله، جاءه رجل وفي
يده نعلٌ ملفوف في منديل.
فقال: يا أمير المؤمنين، هذه نعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديتها لك!.
فقال: هاتها.
فدفعها الرجل إليه، فقبّـل باطنها وظاهرها، ووضعها على عينيه
وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم، فلما أخذها وانصرف، قال المهدي لجلسائه:
أترون أني لم أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها،
فضلا علن أن يكون لبسها، ولو كذّبناه لقال للناس: أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فردّها عليّ، وكان من يُصدّقه أكثر ممن يدفع خبره، إذ كان
من شأن العامة ميلها إلى أشكالها، والنصرة للضعيف على القوي وإن كان ظالما،
فاشترينا لسانه وقبلنا هديته وصدّقناه، ورأينا الذي فعلناه أنجح وأرجح. ؟!
أيها الأفاضل: إذا كان هذا في ذلك الزمان، احتيال وعملية
تورية وخداع واستخدام الحيل وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل الحصول
على منافع مادية، فما بالكم بأزمنتنا المتأخرة ؟!
فالمهدي ـ في قصتنا ـ ما ابتلع هذا الطعم، لأنه -وهو الخليفة-
أذكى من ذلك بكثير، فلم يعطي الفرصة لمثل هذا العامي أن يُشغب عليه، ولكن اشترى
لسانه بدراهم معدودة.. فكيف بغيره.
فكن ـ أيها المسلم ـ ذا مبدأ
وموقف ثابت، ولا ضير في أن تكون دبلوماسيّاً في التّعامل مع البعض، ولكن دونما زيف
ونفاق، ولا تكن ممن يأكلون الدنيا بالدين، روي أن الحسن البصري رحمه الله، رأى
بهلوانا يلعب على الحبل، فقال: "هذا أحسن من أصحابنا، فإنه يأكل الدنيا
بالدنيا، وأصحابنا يأكلون الدنيا بالدين",
وتذكّر أن الشّوائب لابد أن تزول، ويصفى الماء. وستنقشع
الغيوم، ويعود المناخ كما علمونا في كتب الجغرافيا حار جاف صيفا دافئ ممطر شتاء.. "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ". الرعد: 17.
أعاننا الله وإياك
على أنفسنا حتى نستقيم على أمره، وأعاذنا من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق، ومن أن
نشرك به شيئا نعلمه، ونستغفره سبحانه لما لا نعلمه.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك..
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه
وخليله، فصلى الله وسلم على النبي الكريم صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: إن الإخلاص
لله، هو معيار الأعمال الدقيق، ومقياسها الصادق الذي يميز طيبها من خبيثها،
وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارها، قال تعالى:
"وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ".
الزمر:65.
ولما غاب الإخلاص
في حياة الكثير من الناس اليوم، ظهر الشرك والرياء والمراءاة والشهرة، بل الغش
والخداع والاحتيال والكذب، والتزلف والتلون، والعجب والكبر، والغرور والمداهنة
والنفاق، نعوذ بالله من سيئ الأخلاق. يقول عبد الله بن أبي
جمرة: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أنْ يُعَلِّمَ الناس مقاصدهم
في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أُتِيَ على كثير من
الناس إلا من تضييع ذلك.
وما ذلك ـ أيها
المسلمون ـ إلا لأن أعمال القلوب هي الأساس الذي تقوم عليه الأعمال كلها، يقول صلى
الله عليه وآله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
وإذا كان الأمر كذلك فما أحوجنا إلى الإلحاح على الله،
والتضرع بين يديه؛ بأن يوفقنا للإخلاص في أعمالنا وأقوالنا، ويجنبنا الرياء
والسمعة في جميع أعمالنا.
فاللهم وفقنا
لذلك، وارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك،
اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك. اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا
معصية بعدها، وآت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. اللهم
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا
آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في خير، واجعل الموت راحة لنا من
كل شر يا رب العالمين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في
قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار. وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق