الموضوع: عيادة المريض آداب وذوقيات..
الخطبة الأولى
الحمد لله
المتوحد بالعظمة والجلال، والمتفرد بالبقاء والكمال، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل
الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا هو
الكبير المتعال. وأشهد
أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، المنقذ بإذن ربه من الضلال، الداعي إلى كريم
السجايا وشريف الخصال، صلى الله عليه وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل،
والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن يكن من شيءٍ أولى بالتذكير،
ووصيّةٍ أجدر بالتحبير، فإنها الوصية بتقوى الله عز وجل، فهي جماع الخيرات ومعدن
البركات، فما من خير ظاهرٍ ولا باطنٍ إلا وهي سبيل إليه ودليل عليه، ولا شرٍّ
ظاهرٍ ولا باطنٍ إلا والتقوى حصن منه مكين ودرع منه متين، هي دعوة الأنبياء وشعار
الأولياء، فكل نبي يقول لقومه: "ألا تتقون"، وأولياء الله هم:
"الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ". يونس: 63.
أيها المسلمون: إن
من أعظم مقاصد الشريعة، ومن أجلِّ أهداف الإسلام، تأليف القلوب وجمع الشمل وتوحيد
الكلمة وتوثيق العلاقة الأخوية بين المسلمين، وقد أوصى ديننا الإسلامي المسلم
بأخيه المسلم خيراً في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
ألا وإن من أخلاق
المؤمنين التي وصى بها ندب إليها واستحبها، بل جعلها سنة مؤكدة، عيادة المرضى. ففي ذلك تعهّدٌ وسقيٌ لشجرة الأخوة والرابطة الإسلامية، وفي ذلك أيضًا أجر
جزيل، لا يفرِّط فيه الحريص على زيادة أجره وحسناته، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من عاد مريضًا لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها".
وأخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "ما من مسلم يعود مسلما غُدوة، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي،
وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خَرِيفٌ في الجنة".
وعند الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من عاد مريضا نادى مناد من السماء: طبت، وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة
منزلا".
لكن ـ أيها المسلمون ـ: إن
لعيادة المريض آداباً يجب أن تحترم، ولها ذوقياتٌ يجب أن تراعى، وكلّها تصب في
مواساة المريض ورفعِ معنوياته، والحرصِ على راحته وعدم إزعاجه، واكتسابِ الأجر
والثواب الموعود به، نذكر منها على عجل:
أولا ـ لا بدّ من اختيار
الوقت المناسب لعيادة المريض، وإن لم يرد في السنة ما يدل على تخصيصها بوقت معين،
لكن المقصود من عيادة المريض هي الترويح والتخفيف عليه، وذلك كرّه بعضُ أهل العلم
الزيارةَ في وسط النهار، كما نُقل عن الإمام أحمد بن حنبل، قال الأثرم سمعت أبا
عبد الله يعني أحمد بن حنبل، وقال له شيخ كان يخدمه تجيء إلى فلان مريض سمّاه
يعوده، وذلك عند ارتفاع النهار في الصيف، فقال: "ليس هذا وقت عيادة".
لأنه من الآداب، ألا تعود المريض في وقت يسبّب له حرجا أو ضجرا، أو يشقُّ فيه على
أهل المريض؛ أوفي الأوقات التي ينهى الطبيب فيها عن زيارته. قال الحافظُ رحمه الله
في الفتح: "العيادة لا تتقيَّد بوقتٍ دون وقت، لكن جرَت العادةُ بها في
طرَفَي النَّهار". فعليك أخي أن تختار وبقرائن أوقاتا ملائمة لذلك.. .
ثانيا ـ من السنة
تخفيف العيادة، ولاسيما عند ضعف المريض، أو عند كثرة الزوار أو عند ضيق المكان،
ويكون الدخول إلى المريض بحسب حالته واحتياجه، لأنه قد يكون في الإطالة إثقالاً
عليه، فإن المريض قد تمر به حالات أو أوقات يتألم فيها، أو يريد أن يفعل ما لا يحب
أن يطلع عليه أحد، فإطالة الجلوس عنده يوقعه أو أهله في الحرج. قال سفيان الثوري
رحمه الله: "حماقة العائد أشر على المرضى من أمراضهم، يجيئون من غير وقتٍ،
ويطيلون الجلوس". وقال بعض الظرفاء لقوم عادوه في مرضه، فأطالوا الجلوس:
المريض يعاد، والصحيح يزار.
ثالثا ـ لا
تسأل المريض عن علّته ولا عن طبيبه إلا بما يسره، ولا تذكر له صديقا بما يكره، أو
عدواً له بما يحب، ولا تتحدث عن أهله وأولاده إلا بكل خير، رفقاً به وملاطفةً له،
ولا تثقل عليه في السؤال. دخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، يعوده في
مرضه فسأله عن علّته فأخبَره، فقال الزائر: إن هذه العلة ما شفي منها فلان، ومات
منها فلان. فقال عمر: إذا عدت مريضاً فلا تنعِ إليه الموتى، وإذا خرجت عنا، فلا
تعد إلينا. .
أيها المسلم: إن في
عيادتك لأخيك المريض إيناسٌ لقلبه، وإزالة لوحشته، وتخفيفٌ من ألمه، وتسليةٌ لنفسه
ولأقاربه، فاحرص على تحقيق ذلك، واحفظ لأخيك المريض حقوقه، قم بها على وجهها، راع
آدابها، وحقق مقاصدها، يَعظُمِ الأجر، ويصلح الشأن، ويفش الخير، وتسُد المودة..
ومما يستحب لك أن
تفعله إذا عدت مريضا أن تدعو له بالشفاء، وتأمره بالصبر، لحديث عائشة بنت سعد بن
أبي وقاص، إن أباها قال: اشتكيت بمكة وجاءني النبي صلى الله عليه وسلم، يعودني
ووضع يده على جبهتي ثم مسح صدري وبطني ثم قال: "اللهم اشف سعداً وأتمم له
هجرته". أخرجه البخاري مطولاً وأبو داود والبيهقي.
وهناك
أدعية واردة يحسن بالزائر أن يدعو بها للمريض، منها حديث أبي داود والترمذي وقال
حديث حسن، عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من
عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن
يشفيك، إلا عافاه الله من ذلك المرض". وعن ابن عمر
رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا
جاء يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى
جنازة". أخرجه أبو داود والحاكم وابن حبان. وكذلك الحديث المتفق عليه عن
عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود بعضَ أهله يمسح
بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا
شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً".
نعم، أيها المسلمون: فكم من مريض شفاه الله عزَّ وجل
حينما زاره مؤمن وبثَّ في قلبه الطمأنينة ورفع معنوياته، ثم إذا عُدتَ مريضاً،
اطلب الدعاء منه، لأنه قريب من الله عزَّ وجل، ولأنه صافي النفس، ويقظُ الفؤاد،
وحينما تطلب منه الدعاء هذا رفع آخر لمعنوياته. فلا تنس ذلك..
أسأل الله أن يعافينا
من كل بلاء، وأن يمنّ على مرضانا بعاجل الشفاء، وصلى اللهم وسلمَ وباركَ وأنعمَ
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي
أنعم علينا بالإسلام، وشرح صدورنا للإيمان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صلى
الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد: فاتقوا
الله ـ أيها المسلمون ـ واحفظوا لإخوانكم حقوقهم، وقوموا بها على وجهها، راعوا
آدابها، وحققوا مقاصدها، يعظُمِ الأجر، وتَسُدِ المودة. وتذكروا على الدوام أن الإنسان
لا يسلم من المرض، وكلٌّ بحسبه، وعلى المرء أن يحسن الظن بالله تعالى، وأن يصبر
وأن يحتسب حتى يبلغ الأجر والثواب من الكريم الوهاب، وأن يدعو الله تعالى ويلتجئ
إليه سبحانه بالدعاء، وأن يكثر من الذكر والاستغفار، وأن يردّ للناس حقوقهم، وأن
يتذكر الصحة والعافية، وأن يبحث عن الدواء المباح، وأن يتوب إلى الله جل وعلا.
قال جل ذكره: "وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ
ٱلْعَذَابِ ٱلاْدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلاْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".
قال ابن جرير ـ رحمه الله: "واختبرناهم بالرخاء في العيش والخفض بالدنيا
والدعة والسعة في الرزق، وهي الحسنات التي ذكرها جل ثناؤه، ويعني بالسيئات: الشدة
في العيش والشظف فيه والمصائب والرزايا في الأموال "لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"،
أي ليرجعوا إلى طاعة ربهم وينيبوا إليه ويتوبوا من معاصيه" اهـ. فهذا هو قضاء
الله تعالى وقدره:
يجري القضاء وفيه الخير نافلة * لمؤمن
واثق بالله لا لاهـي
إن جاءه فرج أو نابـه تـرح * في الحالتين يقول الحمد لله
ومن رحمة الله بعباده أن جعل لكل مرض شفاء، قال عليه الصلاة
والسلام: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاءً". وجاءت الأعراب إلى
رسول الله صلى اله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله: أنتداوى؟ فقال: "نعم يا
عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد،
قالوا: ما هو؟ قال: الهرم". وإن أولَ
الدواء ـ أيها المسلمون ـ التوجهُ إلى الله تعالى بخالص الدعاء، مع اليقين أن الله
تعالى هو الشافي، فالدعاء واللجوء إلى الله تعالى يثير قِوىً سرية في جسم الإنسان
تُقَوِّى بها مناعته، وكم من أمراض قرر الأطباء أن لا علاج لها، شفى الله منها،
فهو سبحانه القادر على كل شيء لا رب سواه. قال تعالى: "وإذا مرضت فهو
يشفين".
اللهم إنا نسألك
العافية، اللهم إنا نسألك العافية، اللهم إنا نسألك العافية، فليس هناك عطاء في
الدنيا أوسع ولا أحسن ولا أمتع ولا أجمل من العافية، اللهم إنا نسألك العفو
والعافية والمعافاة الدائمة في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا، واحفظنا من بين
أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بك من أن نغتال من
تحتنا، اللهم إنا نسألك صحة في إيمان، وإيمانا في حسن خلق وعمل، اللهم أنزل رحمتك
وشفاءك على مرضانا ومرضى المسلمين أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين،
ودمّر أعداء الدين. واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم
ارفع عنا الوباء والبلاء، وقنا الزلازل والمحن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما
بطن يا سميع الدعاء، اللهم فرّج همّ المهمومين من المسلمين، واقض الدّين عن المدينين،
واشف مرضانا ومرضى المسلمين. ربنا اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولوليّ
أمرنا ولسائر المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين، والحمد لله رب العالمين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق