الموضوع: وكالة قالوا، أو "راديو طروطوار Radio
Trottoir"ـ الإشاعات..
الخطبة الأولى
الحمد لله تفرّد بالعزّة والعظمة والجلال، فله
الحمد بكرة وعشيّاً وبالغدوّ والآصال، ونثني عليه بما هو أهله بلسان الحال
والمقال، ونشكره على جزيل النوال، جلّت نعمُه في النفس والأهل والولد والمال،
ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له وهو الكبير المتعال، ونشهد أنَّ سيّدنا
ونبيَّنا محمّداً عبد الله ورسوله، شريف المحتد وكريم الخصال، صلَّى الله وسلّم
وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خير صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ما ثبتتِ
السنن وتقلّبت الأحوال، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فيا عباد الله: خير الوصايا وصيّة رب
البرايا، قال تعالى: "وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ
مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ". النساء:131، فاتقوا
الله رحمكم الله، فبالتقوى العصمة من الفتن، والسلامة من المحن..
أيها المسلمون: حديثي إليكم اليوم عن آفة خطيرة..
خطيرة، إنها ما انتشرت في بيت إلا دمرته، ولا في مجتمع إلا أضعفته، ولا في أمة من
الأمم إلا مزقتها وفرقت أبناءها وقضت على مقدّراتها.
بسببها دُمّرت الحياة الزوجية، وبسببها حلت
البغضاء والشحناء والعداوات بين الناس، وبسببها سُفكت الدماء وانتُهكت الأعراض
وقامت الحروب وهُزمت الجيوش. وبسببها يتوقف الإنتاج، ويشيع الظلم،
ويذهب الأمن، وتتفكك روابط المجتمع، وتضعف الثقة بين أفراده. إنها سلاح المرجفين،
وبضاعة المفلسين، وسلوك المنافقين. أتدرون ما هي؟.
إنها
الإشاعة.. والتي يسميها بعض الناس: "وكالة قالوا"، أو "راديو
طروطوار Radio Trottoir"،
أي أخبار الشارع. وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مطية: زعموا".
وهي نقل الأخبار دون تثبت أو فحص وتأكد، ودون مراعاة للمصالح والمفاسد من
وراء ذلك.
نعم.. الإشاعة، والتي أصبحت اليوم
تنتشر بسرعة فائقة تفوق سرعة الصوت وسرعة الضوء، ويكون انتشارها على مدى واسع وفي
وقت قياسي؛ وذلك بسبب الاتصالات الحديثة، والشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وشبكة
الهاتف الجوال والقنوات الفضائية والصحف والمجلات.
كم من أخبار كاذبة ومعلومات خاطئة، واتهامات باطلة وشائعات مغرضة، تُنشَر في هذه
الوسائل ضد أفراد أو مجتمعات أو شعوب أو دول، ومع ذلك تجد الكثير لا يتثبت ولا
يتحرى الصدق ولا يتأني؛ بل يشارك في نقلها ولا يدرك أنّ ناقل الكذب والمروج له، سواءٌ
عَلِم أو شك أنه كَذِب، وأذاعه من دون تثبت ولا تمحيص، هو أحد الكاذبين؛ لأنه
مُعين على الشر والعدوان، ناشر للإثم والظلم. ففي سنن أبي داود رحمه الله،
أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: "بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ
زَعَمُوا" رواه أبو داود.
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن العجب أن
الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب
الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه! حتى يُرى
الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها
بالا، يِزلّ منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورِّع عن الفواحش
والظلم، ولسانه يَفْري في أعراض الأحياء والأموات، لا يبالي ما يقول" .
ألا وإن من أبرز التوجيهات الشرعية في
التثبت والتحرّي عند نقل الأخبار؛ وخاصة عند اختلال الأمن وتوقع المخاوف، قوله
تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ". الحجرات: 6 .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله
عند تفسيره لهذه الآية: وهذا أيضًا من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها
واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا،
فإن في ذلك خطرًا كبيرًا ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جُعل بمنزلة خبر الصادق
العدل، حُكِم بموجب ذلك ومقتضاه، فحَصَل من تلف النفوس والأموال بغير حق، بسبب ذلك
الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق التثبت والتبين، فإن دلت
الدلائل والقرائن على صدقه عُمل به وصُدِّق، وإن دلت على كذبه كُذِّب ولم يعمل به،
وفي هذه الآية دليل على أنّ خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب، مردود، وخبر الفاسق
متوقف فيه.
ألا وإن من التوجيهات الشرعية أيضاً: رد
الأخبار التي يتوقع الخطورة منها إلى أهلها المتخصصين فيها، لأنهم أهل الخبرة
والدراية والعلم في ذلك؛ وذلك هو منطوق قوله تعالى: "وَإِذَا جَاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى
الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً". النساء: 83 .
قال العلامة السعدي رحمه الله: هذا تأديب من
الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور
المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة
عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي
الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور
ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم
وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة ولكن
مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال: "لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ". أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة
وعلومهم الرشيدة.
ألا وإن المرجع الذي يجب
أن نعود إليه ـ أيضا ـ فيما نأخذ منه وندع، وهو أمر ذو بال، ويجب أن يلتزم به كل
مسلم صادق مخلص حريص على الخير لنفسه، ولأمته، وقيادته، حتى في بعض الأخبار
المتعلقة بالأفراد، والجماعات ما أخرجه البخاري ومسلم، أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فجاء من منزله حتى
دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى الله عليه
وسلم فاستفهمه: أطلقت نساءك؟، فقال: لا. فقال: الله أكبر. وذكر الحديث بطوله. وفي
مسلم، فقلت: أطلقتهن؟ فقال: لا، ثم قال: فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي:
لم يطلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه، فنزلت هذه الآية: "وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ".
ومن أجل ألا يصيب المجتمع، والأفراد بسبب الأخبار
المشاعة عنت ومشقة وأضرار خطيرة، ربى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على
التثبت والتبين، ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن قيل وقال"،
أي الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تبين.
وخلاصة ما قلت أقول: من التوجيهات الشرعية ألا يتحدث
المسلم بكل خبر سمعه إلا بعد تحقق وقوعه وحصول النفع في نشره؛ ومما يؤكد ذلك ما
رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: “كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سمع".
فيا رعاكم الله: عليكم أن تستشعروا أمانة
الكلمة، واعلموا أنكم مسؤولون عنهـا، فتثبتوا وتحرزوا قبل نقل أيِّ حديث أو
معلومة، قال تعالى: " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا
". 36: الإسراء.
اللهم طهر ألسنتنا من كل سوء، واحفظنا
من كل زلل، وتب علينا من كل ذنب يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الآمر بالبر والإحسان،
الناهي عن الإثم والعدوان، أحمده سبحانه أن هدانا للإيمان وعلمنا البيان، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم
عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اما بعد، فيا أيها المسلمون: نعود إلى
قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى
مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ".
فهذه الآية الكريمة ـ عباد الله ـ
ترسِم لنا منهجاً عظيماً في شأن تلقّي الأخبار، وبالأخص في هذا العصر الذي نرى فيه
السباق المحموم لنقل الأخبار والأحداث ساعةً بساعة، بل لحظة بلحظة، في عالم قد
اتّصل شرقه بغربه، وتقارب أقصاه من أدناه، تملأ سماءه فضائيات وقنوات، وتغصّ أرضه
بصحف ومجلات، ناهيك عن عجيبة هذا العصر شبكة المعلومات العالمية المسماة
بالإنترنت.
ألا فاتقوا الله، واعلموا أن الشائعات
جريمة ضد أمن الأفراد والمجتمعات، وصاحبها مجرم في حق دينه ومجتمعه وأمته، مثيرٌ
للاضطراب والفوضى في الأمة، وقد يكون شراً من مروّج المخدرات، فكلاهما يستهدف
الإنسان، لكن الاستهداف المعنوي أخطر وأعتى. ألا وإن الذين يقومون بهذه المهمة
ويؤدون هذه الوظيفة، لا يرجون من ورائها مغنما، وإنما يقومون بها احتسابا للشيطان،
لأنهم وكما سماهم وهب: "بريد الشيطان". يوم أن جاءه رجل فقال له:
"إن فلانا شتمك، فقال له: أما وجد الشيطان بريدا غيرك"؟.
وما كان موضوعنا هذا اليوم ـ أيها الكرام ـ
إلا لأنه ـ وللأسف ـ قد ابتلي كثير منا (إلا ما رحم ربى) بمرض (الثرثرة) وهي كثرة
الكلام، وانطلاق ألسنتهم في القيل والقال، ونقل كل ما يسمعونه من الإشاعات
وينشرونها بين الناس دون التثبت من مصدرها، والتحقق من صحتها، ويكونون بمثابة
البوق الذي ينشر كل صوت يُنفخ فيه دون فهم ولا وعي، ولاسيما في هذا العصر الذي
انتشرت فيه وسائل الاتصال الاجتماعي المختلفة كما ذكرنا، يقول صلى الله عليه وسلم:
"كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع". فقد وصف النبي صلى الله
عليه وسلم الفاعل بالكاذب، والكذب أول علامة من علامات النفاق والعياذ بالله.
فالواجب على من يخاف مقام ربِّه
ويخشى المُثولَ بين يديه، البُعد عن الخوض مع الخائضين بقيل وقال، وأن لاَّ يشغلَ
نفسه بما يخدِش دينه ويُعرِّضه لغضب ربه، ففي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة
والسلام: "من قال في مؤمنٍ ما ليس فيه أسكنَه الله رَدْغَة الخَبال حتى يخرج
مما قال". ورَدْغَة الخَبال: عصارة أهل النار. نسأل الله السلامة. وفي
الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل
خيراً أو ليصمُت".
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى * وحظك موفــــــــــــور وعرضك صين
لسانــك لا تذكـــــر به عـــــورة امــرئ * فكلك عــــــــــورات وللناس ألسن
وعيــــــــنك إن أبدت إليك مســــــــاوءً * فصنها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتـــــــدى * وفارق ولكـــــــن بالتي هي أحـــسن
اللهم
إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وتدفع
بها الفتن والمحن عنا يا أرحم الراحمين. اللهم أحفظ الجزائر وأهلها من كل سوء
ومكروه، واجعلها بلداً آمنا مطمئنا سخاء رخاء وأظله بظل الإسلام والإيمان، وبنعمة
الأمن والأمان والاستقرار والوحدة، وجميع بلاد المسلمين. اللهم ألف بين قلوبنا
وأَصلح ذات بيننا، وأهدنا سبل السلامِ، اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب
عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا
أرحم الراحمين. "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ". وصل
اللهم وسلم على سيدنا ونبينا محمدا وعلى آله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق