الموضوع: يوم 8
مايو يومٌ للذكرى والتذكّر.
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، العزيز الرحيم، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله، علمنا أن نعيش أعزاء، أو نموت شهداء. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، قال تعالى في
كتابه الكريم: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين". المنافقون:8.
عباد الله: إن العزة
فيها معنى الشدة والقوة والغلبة. والعزة خلق من أخلاق المؤمنين التي يجب أن يتحلوا
بها ويحرصوا عليها، لأن إلههم عزيز، ودينهم عزيز، فما عليهم إلا أن يكونوا أعزة. والقرآن الكريم لم يكتف بتحريض المؤمنين على إباء الضيم
ونبذ الظلم وإيثار العزة تعريضا صريحا وتوجيها مباشرا، بل ضرب الأمثال في الأمم
السالفة التي استجابت لدعوات الحق، وتابعت رسل الله واستشعرت العزة وتمردت على
المذلة، فكان جزاؤها كريما وثوابها عظيما، حيث خاضت المعارك من أجل عقيدتها
ومبدئها ولم تهن ولم تضعف، بل صبرت وصابرت وكافحت وناضلت حتى ظفرت وانتصرت، وذلك
بفضل الله العزيز الذي يحبّ الأعزاء. قال تعالى: "وكأين من نبئ قتل معه ربيّون
كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب
الصابرين". آل عمران:146.
وإن في السيرة النبوية ما يهدي أتباع محمد
صلى الله عليه وسلم إلى منهج الشرف وطريق العزة. فالهدي النبوي الكريم، يعلم
الإنسان ألا يرضى الدنية في دينه ولا دنياه، بل يحفظ لنفسه حقها، ويدافع عن هذا
الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فإن مات دونه فهو شهيد، وإن انتصر عاش عيشة
الأحرار.
أيها المباركون: وفي تاريخ ثورتنا المجيدة ما
أحداث الثامن مايو1945 عنا ببعيدة، حيث أن الرئيس الفرنسي "ديغول" قد
وعد ببرازافيل عام 1944 بإعطاء الحكم الذاتي للمستعمرات الفرنسية، بما في ذلك
أقطار المغرب العربي إن هي وقفت بجانب فرنسا في مواجهة الجيوش الألمانية، وتخلّصت
من الاحتلال، وتصديقا لهذه الوعود اندفع خيرة أبناء الشعب الجزائري للقتال، يحدوهم
الأمل بالنصر وتحرير بلادهم، فدفع بذلك الشعب الجزائري عشرات الآلاف من القتلى
وضعفهم من المعطوبين، وانتهت الحرب العالمية الثانية، وانتصر الحلفاء على ألمانيا،
وكانت الإحتفالات بعيد النصر.
وخرج الشعب الجزائري هو الآخر ليعبر عن فرحته بالنصر والإستقلال، حاملا
العلم الوطني، لكن الأحقاد الصليبية الدفينة ما لبثت أن تجلّت من جديد في صورة
أكثر وحشية، حيث قام جلادو العدو بتسليط جامّ غضبهم على الأهالي العزّل دون تمييز،
ومن المدن التي تعرضت أكثر من غيرها للإبادة والدمارـ كما تعرفون ـ "سطيف،
وقالمة، وخرّاطة" .
في مثل هذا اليوم طبّق العدو
أساليب النازية، وزاد عليها، فدمّر القرى على من فيها. انتهك الحرمات، فتح بطون
الحوامل، فتح نيران أسلحته بالأزقة، ووسط القرى دون تمييز بين الصغير والكبير،
فالجزائريون أمامه سواء. وكان من نتيجة هذه الأعمال الوحشية استشهاد: 45ألف مواطن،
واعتقال:1500.
أيها المسلمون:
ولكن ما كانت هذه المجازر إلا لتزيد أبناء الجزائريين المخلصين لوطنهم إيمانا
بحتمية الكفاح المسلح لنيل حياة العزة والكرامة، وتضع حدّا لأحلام بعض السياسيين،
وتؤكد أن الأساليب السياسية لا تجدي نفعا مع عدوّ اغتصب كل شيء، المال والأرض
والأعراض بالحديد والنار.
وامتثالا لقول الله تعالى: "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور، وذكرهم بأيام الله، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور". إبراهيم:5.
وامتثالا لقول الله تعالى: "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور، وذكرهم بأيام الله، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور". إبراهيم:5.
إن كل الأيام أيام الله، ولكن المقصود هنا، أن
يذكرهم بالأيام التي يبدو للبشر أو لجماعة منهم أمر بارز أو خارق بالنعمة أو
النقمة. ففي هذه الأيام، ما فيه بؤس، فقيه آية للصبر، وما فيه نعيم، فهو آية
للشكر. والصبّار الشكور هو الذي يدرك هذه الآيات، ويدرك ما وراءها، ويجد فيها
العبرة والعظة، كما يجد فيها تسرية وتذكيرا.
فيوم 8 ماي يومٌ
للذكرى والتذكر، يقول فيه الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله: "يوم ليس
بالغريب عن رزنامة الاستعمار الفرنسي بهذا الوطن، فكم له من أيام مثله، ولكنّ
الغريب فيه، أن يجعل ـ عن قصد ـ ختاما لكتاب الحرب، ممن أنهكتهم الحرب على من
قاسمهم لأواءها، وأعانهم على إحراز النصر فيها. ولو كان ذا اليوم في أوائل الحرب
لوجدنا من يقول: إنه تجربة كما يجرب الجبان القوى سيفه في الضعيف الأعزل".
لقد كان الاستعمار
الفرنسي بحق أسوأ استعمار عرفته
البشرية، وكانت ثورة التحرير أعظم ثورة عرفتها البشرية، ولا فخر، وإرادة الله أقوى
وأجل. ويوم 8 من ماي محطّة من أهم المحطات في
تاريخ الجزائر التي تستحق كل الاهتمام والتقدير، ولنتذكر جيدا أن استقلالنا
واسترجاع سيادتنا الوطنية ما قدم لنا هدية سائغة أو عطاء لا
مقابل له، بل جاء نتيجة لتضحيات جسام لم يشهد التاريخ
لها مثيلا، وهل كان لفرنسا أن تصغي لمفاوضاتنا، أو تستجيب لمطالبنا، لولا
ثورة نوفمبر المجيدة، التي أخذت تشق طريقها نحو فجر
الحرية والسيادة تحت قوافل الشهداء
الأبرار، فــنحن - كما قال شاعر الثورة
رحمه الله:
لم يكن يصغ لنا لما نطقنا * فاتخذنا رنة البارود وزنا
وحفظ الله شيخنا وأستاذنا المبروك زيد الخير، إذ يقول عن
الجزائر وثورتها:
يا صاغة التاريخ كم في موطني * من آية تفضي
لمجدٍ مشترك
يسمو بها شعـبي ويصـعد للعـلا * ويعاف أن
يبقى يؤرجح في الدرك
يا دهر أنا جزائري في وحيها ** تسمو على
الدنيا وتصعد للفلك
والأمنيات مطامح لا تنــتهي ** قالت لشعبي
بعد عسر: هيت لك
فهذا اليوم ليس كباقي الأيام، يقول الشيخ البشير الإبراهيمي عليه رحمة الله، يصف هذا اليوم:
"إن هذا اليوم أزهقت فيه الأرواح كأنه أوسمة شرف، للتضحيات التي قدّمها الشعب
الجزائري لفرنسا أثناء الحروب بلا مقابل. بحيث ألحق الشباب الجزائري بجبهات القتال
في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بعد أن ملأ الإستعمار أعطافه بالتمنيات والوعود
الكاذبة، ثم سرعان ما انقلب عليه، وجازاه جزاء سنمّار". (عيون البصائر الجزء:
2).
فحق
للجزائريين أن يتوقفوا فيه للذكرى والتذكر، ويباهون أهل الدنيا بثورتهم المباركة.
يذكرون أبطالهم الأوفياء الذين قامت الجزائر على أكتافهم، ونهضت بهمتهم، وعلت
بعزيمتهم، يترحمون على من قضى نحبه من شهدائهم، ويدعون الله بالعمر المديد والصحة
والعافية لمن ما زال على العهد ثابتا.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل درجاتهم في عليين، وارزقنا
السير على طريقهم يا رب العالمين..
الخطبة الثانية
الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
أما بعد، أيها المباركون: إننا اليوم عندما نستحضر تاريخ كفاح
أبطالنا في سبيل تحقيق حرية واستقلال وسيادة الجزائر، ندرك معنى التضحية التي
امتزجت فيها الدماء الزكية بثرى الأرض الطاهرة النقية، وذلك عبر عقود من الزمن،
كما ندرك معنى الوفاء والإخلاص لجزائرنا المحروسة بإذن الله، في ظل الوحدة والأخوة
والألفة بعيدا عن كل ما من شأنه أن يعكر الصفو، فاحيوا جميل مفاخرِ وطنكم
وأمجادِه، وأحرصوا على الوفاء له وإِسعادِه، فإنَّكم عليه أُمناء، فكونوا له نعم
الأَبناء، بالحرص على تحمُّل المسؤولية في مسيرة البناءِ، والإخلاص له وحسن
العطاءِ. كونوا خير خَلَف، لخير سلف، سيروا على درب الأُلى الذين ساروا على نهج
الهدى، وتدربوا على التضحية والفداء. صِلُوا الحاضر بالماضي، لتبلغوا أرفع مدارج
العزّ في العاجلة، وخيرَ منازلِ المقرّبين في العقبى..
ولا تنسوا أو تتناسوا فضل من أكرمنا الله وأحسن إلينا بسببه،
خصوصا إذا كان ذلك المحسن قد ضحى بحياته من أجل سعادتنا وسيادتنا، وهذا ما
فعله الشهداء الأبرار من أجلنا، ولسان حالهم يقول:
واقـــض يا موت فيّ ما أنت قاض * أنا راض إن
عاش شعبي سعيدا
أنا إن مت فالجــــــزائر
تحـــــــــــيا * حـــــــــرة
مســــــتقلة لن تبيدا
نسأل اللهَ سبحانه أن يغمر أرواح شهدائنا ـ الذين عبدوا لنا
طريق العزة والكرامة ـ برحمته، وأن يمتّع المجاهدين الباقين بالصحة والعافية، وأن يمكّن
لناشئتنا من أسباب الرقي والسؤدد ما يجعلهم خير خلف لخير سلف.. اللهم اجعل الجزائر بلد
آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم أدم عليه الفتح والنصر، ودمّر من أراده
بسوء يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد صفوفنا، وأصلح قادتنا، واجمع
كلمتنا على الحق يا رحيم. اللهم وفّق ولي أمرنا
إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا
في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق