28 أغسطس 2017



الموضوع: خطبة عيد الأضحى يوافق يوم الجمعة.

الخطبة الأولى
      الله أكبر (7)، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
   الحمد لله العلي الكبير، الحميدِ المجيد، شرع الدِّين لمصالح العباد، وبيَّن لهم ما ينجيهم يوم المعاد؛ "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ". البقرة: 132.
   الحمد لله حمدًا يليق بجلاله وعظيم سلطانه؛ "لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ". القصص: 70.
    الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، لا نحصي ثناء عليه كما أثنى هو على نفسه، أبهج بالعيد نفوسَنا، وشرع لنا أضحيَّتَنا، وأكْمل لنا ديننا، وأتمَّ نعمته علينا، ودفَع السوء عنا، ومن كل خير أنالنا، هو ربُّنا ومالكنا ومعبودنا، نواصينا بيده، ماضٍ فينا حكمه، عدلٌ فينا قضاؤه، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، يجزي على الحمد حمدًا وفضلاً، ويكافئ على الشكر زيادة وبِرًّا، ويدفع بالاستغفار عقوبةً ويغفر ذنبًا،    
      وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عمَّ فضلُه العالمين، ووسع إحسانُه الخلقَ أجمعين، وكتب رحمتَه للمؤمنين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أنار الله - تعالى - به الطريق للسالكين، ورفع ذِكره في العالمين، وجعله حُجةً على العباد أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادة المتقين، والغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
       أما بعد أيها المسلمون: فإن الزمان دارت رحاه واستدار في فلكه ووافانا العاشر من شهر ذي الحجة عامنا هذا 1438 هـ، وقد جمع الله لنا فيه عيدين: عيد أسبوعي وهو يوم الجمعة، وعيد سنوي وهو عيد الأضحى.
    فيوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع قال صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عليه الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فيه خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ منها ولا تَقُومُ السَّاعَةُ إلا في يَوْمِ الْجُمُعَةِ".  رواه مسلم.  ويوم الأضحى وهو أفضل أيام السنة على الإطلاق؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ".  رواه أبو داود وهو صحيح.  
   فهنيئا لنا لكم اجتماع هذين الفضلين العظيمين، فيا ربنا لك الحمدُ سرًّا وجهرًا، ولك الحمدُ دومًا وكرًّا، ولك الحمد شعرًا ونثرًا. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
    أيها المسلمون: هذا يوم عظيم، هو يوم الجمعة وهو يوم الحجِّ الأكبر أفضل أيام السَّنة، وهو أكبر العيدين وأفضلُهما، وهو أيضا خاتمة أفضل عشرٍ في العام، وهو الوسط بين أيام العشر وأيام التشريق، وكلُّها أيام ذِكرٍ وتكبير؛ قال تعالى: "وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ". الحج: 28، هي أيام العشر؛ "وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ". البقرة: 203، هي أيام التشريق، وهي أيام أكْلٍ وشربٍ وذِكرٍ لله -تعالى -كما جاء في الحديث. فما أعظمَ فضلَ الله -تعالى -علينا! وما أشدَّ رحمتَه بنا! إذ هدانا إلى ما يقرِّبنا إليه، فله الحمد دائمًا وأبدًا.
    اليوم -يا عباد الله -يومُ الذِّكر والشكر، وهو يوم الذبح والنحر، قال تعالى: "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ " الكوثر: 2. يومٌ امتحن الله فيه قلوب عباده المؤمنين وأوليائه الصالحين، ليَعلم علم مشاهدةٍ ما تنطوي عليه هذه القلوب من الخير والطاعة والإستسلام والتضحية. يومٌ امتحن الله فيه نبيه ورسوله وخليله أبا الأنبياء إبراهيم على نبينا وعليه السلام لرؤية رآها، كما ذكر الله في كتابه العزيز، قال تبارك وتعالى: "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ". سورة الصافات: 99ـ111
    يا له من بلاء، ويا له من امتحان.. ولكن أمر الله يجب أن يطاع، والأنبياء أحرص الناس على طاعة الله، وقد صدّق إبراهيم الرؤيا ورضي بقضاء الله وسلّم تسليما، ولم يجد من ابنه إسماعيل إلا الصبر والطاعة المطلقة والإستسلام التام: "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين".
         ويطرح إبراهيم ابنه على جبينه لينفّذ أمر الله فيه، فإذا برحمة الله التي هي دوما قريب من المحسنين، ويعلم الله من الأب والإبن إخلاصَهما وصفاءَ معدنهما فيجعل لهما من أمرهما مخرجا، ويأتي النداء من السماء: "يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين". وينظر إبراهيم على نبينا وعليه السلام فيجد الكبش محضرا أمامه ويُؤمَر بذبحه ويخلي سبيل ابنه، فذبحه وهو يكبر تعظيما لله وشكرا له. ويخلِّد القرآن هذا الحادث ويصفه بأنه البلاء المبين.. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر.
     عباد الله: لقد مرّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بامتحان التّكليف فَوَفَّيَا، فهل نوفي نحن أم ننتكس؟
       فبعض المغزى من قصة إبراهيم على نبينا وعليه السلام، أن يمتثل المسلم أمر الله لا يتلكّأ ولا يتهرب، وأن يكون سخيّا معطاء، وأن يعتقد بأن الله جاعل له من أمره يسرا، قال تعالى: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".
   وما هذه الأضاحي التي تتقرّبون بها إلى الله في يومكم هذا إلا سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والتسليم، ولقد أخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن لنا بكل شعرة منها حسنة وبكل صوفة حسنة، وإنها تأتي يوم القيامة شاهدة لصاحبها بما قام به من الشكر لله والتودّد إلى إخوانه. فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحبّ إلى الله من إهراقه دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدّم ليقع من الله عزّ وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا". رواه الترمذي.
       فهنيئا لكم هذا اليوم، وهنيئا لكم بما منّ الله عليكم من بهيمة الأنعام، فاشكروا الله وكبروه، وضحّوا عن أنفسكم وأهليكم، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، حيث ضحّى عنه وعن أهل بيته. قال أنس رضي الله عنه: "ضحّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين– أي أبيضين خالصين– أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبر ووضع رجله على صفاحهما". رواه البخاري.
   ألا وإن السنة في ذبح الأضحية أن تكون بعد صلاة العيد، فقد روى البخاري بسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "إنَّ أوّلَ ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلِّي، ثم نرجع فننحَر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، ومن نحر قبلَ الصلاة فإنما هو لحم قدّمه لأهله، ليس من النسُكِ في شيء".
    فيا أيها المباركون: إذا رجعتم إلى منازلكم ـ بإذن الله ـ فاذبحوا أضاحيكم، وليكن رائدكم في عملكم هذا تقوى الله، قال الله تعالى: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم". الحج: 137. وكلوا منها وأطعموا البائس الفقير والقانع والمعترّ، واعلموا أن ما تقدّمونه من خير فلأنفسكم، فلقد روى الترمذي في سننه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنهم ذبحوا شاة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها إلا كتفها".  لقد بين صلى الله عليه وسلم أن الجزء الذي يذهب للفقراء والمساكين هو يذهب إلى الله، وهو الباقي. قال تعالى: "ما عندكم ينفذ وما عند الله باق".
       ألا واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ: إن الأعياد ليست بعودة الأيام ولا بتكرّر السنين، وإنما بما يتحقّق فيها من القيم الإنسانية والأهداف النبيلة، فما الأعياد إلا مظهر من مظاهر الأخوة الصادقة والتعاون والتعاطف والتراحم بين المسلمين، أينما كانوا، وحيثما وجدوا. فيومكم هذا هو يوم تآخ وتصادق وتسامح وتصالح، أفرغوا صدوركم من الضغائن والحقد والغلّ والحسد، وصِلوا أرحامكم وأقاربكم وجيرانكم وأصلحوا ذات بينكم، وتذكّروا دوما ما رواه الأمام مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تفتح أبواب الجنة يوم اثنين وخميس فيُغفَر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظِروا هذين حتى يصطلحا". وروي ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا: رجل أمّ قوما وهو له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها غضبان، وأخوانٍ متصارمان".
    فلتتصافحْ في هذا اليوم وكلّ يوم قلوبكم قبل أيديكم، واستغفروا لذنوبكم، واعملوا من الصالحات ما تجدونه يوم ترجعون فيه إلى الله، أعرفوا قدر يومكم هذا، وتعرّضوا لنفحات ربكم فإنه رحيم كريم.. 
    الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. اللهم اجعل لنا مواسم الخيرات مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات إلى رحمتك طريقا وسلما، وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه،  أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
                                                                  الخطبة الثانية
     الله أكبر(5) ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه بكرة وأصيلا، ورضي عن أصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
     أما بعد، فيا أيها المسلمون: آن لكم أن ترجعوا راشدين إلى بيوتكم على غير الطريق التي أتيتم منها، لتشهد لكم ملائكة الطريقين كما جاء بذلك الأثر، فتذبحوا أضاحيكم بأيديكم، ومن لم يحسن الذبح كفاه أن يوكّل من يقوم بالذّبح بدله ويشهد ذلك، فلقد روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته: "يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإن لك بكل قطرة من دمها أن يغفر لك الله ما سلف من ذنوبك، قلت يا رسول الله: ألنا أهل البيت أو لنا وللمسلمين؟. قال: بل لنا وللمسلمين".
     اذبحوا أضاحيكم واشكروا الله وأكثروا من حمده وعظموا شعائر الله، "فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ". الحج:32، ضحّوا وطيبوا نفسًا بضحاياكم، فإنه ما عُبِد الله في يوم النحر بمثل إراقة دم الأضاحي، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، واعلموا أن الذبح ممتد إلى غروب الشمس من ثالث أيام التشريق، وأنه يشرع في هذه الأيام التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبة، فكبّروا وارفعوا به أصواتكم، وأحيوا سنة نبيكم نَضَّرَ الله وجوهكم، واحرصوا على حضور صلاة الجمعة هذا اليوم ولا تتركوها، فمن تركها ولا عذر له فقد عصى الله تعالى وعرّض نفسه للوعيد الشديد الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم:  "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين".  رواه مسلم.   وكيف يفرّط المسلم في حضور الجمعة وفيها خير كثير في التبكير إليها والقراءة والذكر وكونها أفضل من الظهر وكون خطبة الجمعة آكد من خطبة العيد.  فلا ينبغي التفريط في حضورها ولو في يوم عيدٍ. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ".
    وأذكّركم ونفسي آلاء الله ونِعمَ الله وعطاءَ الله، فاشكروه سبحانه وتعالى يزدكم، فإنه من لم يشكر الله عز وجل أصابه موعوده سبحانه وتعالى من الهلاك والدمار، قال تعالى: "وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ". النحل:112.
     فانظروا ـ عباد الله ـ  أي نعمة نعيشها؛ نعمة الأمن في الأوطان واجتماع الأهل والخلان والصحة في الأبدان، ولذا وجب علينا أن نشكر الله، ونتذكّرَ إخوانًا لنا مفزَّعين ملْتَاعِين في فلسطين وفي بلادِ الرافدَين وفي ليبيا واليمن وفي كلّ مكان، بل إن العالم الإسلامي اليوم ـ أيها المؤمنون ـ لتجتاح كثيرا من بلدانه أمواج عاتية من الفتن، فتنٌ تحرق الدين وتحرق العقل وتحرق البدن، فتنٌ لا تُبقي ولا تذر، فتن اجتالت الأنفس والثمرات، وأذهبت الأموال والممتلكات، وأحرقت المدن والأرياف، فتنّ شرّدت وأفزعت الرجال والنساء والصغار والكبار، والله المستعان على ما تَصف وتَنْقُل وكالات الأنباء ونشرات الأخبار..
   ولا يسعنا إلا أن نقول: اللهم تدارَك أمةَ نبيِّك الأمين، وانصرهم على عدوّك وعدوهم يا قوي يا متين، اللهم انشُر بينهم الأمن والإيمانَ والتقوى، وجنِّبنا وإياهم الآفات في السر والنجوى، يا كاشف كلِّ بلوى، لا إله إلا أنت يا رب العرش العظيم، اكفِنا ما أهمَّنا وما لا نهتمُّ به، وما أنت أعلمُ به منا، وكن هَمَّنا أنت وحدَك يا أكرم الأكرمين. اللهم يا محوِّل الأحوال حوِّل حالنا وحال المسلمين أجمعين إلى أحسن حال، وعافِنا من أحوال أهل الضلال وفِعل الجهال يا رب العالمين، اللهم نسألك لنا ولبلدنا وللأمة مِن خير سألك منه عبدُك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك مما استعاذك منه عبدُك ونبينك سيدُنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بك. اللهم وإن لنا إخوانا هم حجاج بيتك نغبطهم على ما يسرت لهم، لكن نسألك أن تتقبّل منهم، وأن تيسّر أمورهم، وأن تجعل حجهم مبرورا وذنبهم مغفورا، وأن تعيدهم إلى بلدانهم سالمين وبالأجر غانمين. ربنا اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين، وأعد علينا على اليوم بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
.وكل عام والجميع بتوفيق الله في خير وعافية، وصلى الله وسلم على محمد.

23 أغسطس 2017

الموضوع: وأقبلت أفضل أيام الدنيا ـ عشر ذي الحجة


الخطبة الأولى
    الحمد لله رب العالمين، نحمده حمد الشاكرين، سبحانه سبحانه، هو أكبر من كل كبير، وله الخلق والتدبير وإليه المرجع والمصير وهو نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.  وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
      أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه، فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصل، وهي العدّة العتيدة لمن رام خيرًا وصلاحًا، ونَشَد عزًا وفلاحًا، وقَصد برًّا وتوفيقًا ونجاحًا.
أيها المسلمون: ها هي قد هلّت علينا أفضل أيام الدنيا، أيام رفع الله ذكرها وعظّم وأعلى قدرها، حيث أقسم بها في كتابه العزيز فقال: "والفجر وليال عشر والشفع والوتر.."،  أيام يكثر فيها الخير وتهبط فيها الرحمة ويعم فيها الفضل والإحسان على قصّاد البيت الحرام، والطائفين بالكعبة والمقام والذاكرين الله عند المشعر الحرام .
    هذه الأيام المباركة يكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن فضلها ويعلن عن خيرها وشرفها، فيقول فيما رواه البيهقي: "وما من أيامٍ العملُ الصالح فيها أحب إلى الله من عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء". 
فأي فضل هذا ـ عباد الله ـ وأي موسم للخيرات، وأي باب لجمع الحسنات.  الجهاد الذي هو أفضل العمل بعد الإيمان بالله والصلاة لوقتها ما لم يكن في هذه العشر، فالعمل فيها أحب إلى الله منه.
     يا له من موسم يُفتَح للمتنافسين، ويا له من غبن يَحِيق بالقاعدين والمعرضين. فاستبقوا الخيرات يا عباد الله، وسارعوا إلى مغفرة من الله وجنة عرضها الأرض والسماوات..
     ألا وإن من الأعمال الصالحة التي يستعد لها المسلمون في هذه الأيام في مشارق الأرض ومغاربها: تقديم الأضاحي.
والأضحية– عباد الله – مشروعة بالكتاب والسنة وبإجماع علماء المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا". رواه ابن ماجة.
     فاشكروا الله ربكم على ما أنعم به عليكم من بهيمة الأنعام، وضحّوا عن أنفسكم وأهليكم، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، حيث ضحى عنه وعن أهل بيته. قال أنس رضي الله عنه: "ضحّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين– أي أبيضين خالصين– أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبر ووضع رجله على صفاحهما". رواه البخاري.
   هذا واعلموا: أن العبادة المرضية عند الله، هي تلك التي تصحبها النية الصالحة ويسري فيها روح الإخلاص، قال الله تعالى: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم". الحج:37.
    والأضحية تكون من بهيمة الأنعام، من الإبل أو البقر أو الضأن على اختلاف أصنافها، ولا تجزئ إلا بشر طين:
 الأول: أن تبلغ السن المعتبر شرعا.
الثاني: أن تكون سليمة من العيوب.
    أما السنّ المعتبر: قال الشيخ خليل رحمه الله: "بجذع ضأن وثنيّ معز وبقر وإبل ذي سنة وثلاث وخمس". قال: الإمام مالك رحمه الله في المدونة: "لا تجزئ ما دون الثنيّ من سائر الأنعام في الهدايا والضحايا، إلا الضأن وحدها فإن جذعها يجزئ". والجذع: هو ما أوفي سنة أو قاربها، وقيل ماله عشرة أشهر وقيل ستة أشهر، والقول الأول أولى وأوفى. لما قرأناه في حاشية العدوي رحمه الله: "أن الشاة الجذعة ما أوفت سنة وشرعت في الثانية". قال صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنّة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن، والمسنّة من الأنعام وهي الثنيّة". رواه مسلم.
    أما السلامة من العيوب: فقد علمتم أنه لا يجوز في الأضاحي سوى السليمة من كل نقص في خليقتها، فلا تجزئ العوراء ولا العرجاء ولا العضباء– أي مكسورة القرن من أصله- أو مقطوعة الأذن من أصلها، ولا المريضة ولا العجفاء، وهي الهازل التي لا مخ فيها، وذلك لحديث البراء بن عازب ـ  رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ماذا يتقى من الضحايا، فأشار بيده وقال: أربعا. وكان البراء يشير بيده، ويقول يَدِي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم: العرجاء البيّن ظلعها والعوراء البيّن عورها والمريضة البيّن مرضها والعجفاء التي لا تنقي". رواه الإمام مالك.
     أيها المسلمون: وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل، فاستكملوها واستسمنوها واستحسنوها، يتقبل الله منا ومنكم. أعـوذ بالله من الشيطان الرجيم: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرِ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأْبْتَرُ".  وقال تعالى: "وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ".. 
 نفعني الله وإياكم بما قلت وأستغفر الله لي ولكم...         
الخطبة الثانية
     الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
   وبعد، أيها المسلمون: ومن الأعمال الصالحة في شهرنا هذا صوم يوم عرفة. روى مسلم وغيره من حديث قتادة رضي الله عنه، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة، قال: "يكفر السنة الماضية والباقية". وقال الإمام الغزالي رحمة الله عليه: "إن يوم عرفة أفضل يوم في الدنيا". وتأملوا معي ما ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رؤي الشيطان في يوم أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة". رواه الإمام مالك.
  إنه اليوم الذي تمنى اليهود عليهم لعائن ربي المتتابعة إلى يوم القيامة أن يكون عندهم ليتخذوه عيدا، أخرج البخاري عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا.  قَالَ أَيُّ آيَةٍ؟. قَالَ: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا". قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ .
ألا وإن يوم عرفة ـ أيها المسلمون ـ يومٌ يرجى فيه إجابة الدعاء، وبهذا أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فعن عَمْرِو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"؛ رواه الترمذي. فعلى المسلم أن يتفرغ للذكر والدعاء والاستغفار في هذا اليوم العظيم، وليدع لنفسه ولِوالديْه ولأهله وللمسلمين...
     فأبواب الرحمة والمغفرة والرضوان مفتوحة، فلنتق الله ولنغتنم هذه الأيام الفاضلة، فإنها أيام طيبة مباركة تـضـاعف فيـهـا الحسنات كما علمتم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلـم، واعلموا أن لكل عامل جزاء ولكل مفرّط ندامة.
  وفقني الله وإياكم لتعظيم شعائره والعمل بشريعته، والوفاة عليها إنه جواد كريم، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأهل علينا هلال ذي الحجة بالأمن والإيمان والسلام والإسلام، ووفقنا فيه وفي كل وقت لكل عمل تحبه وترضى به عنا، اللهم ربنا وآتنا في الدنيا حــسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.  

19 أغسطس 2017

الموضوع: يوم المجاهد



الموضوع: يوم المجاهد

الخطبة الأولى
الحمد لله، حمد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا، وأشهد أن لا إله إلا الله، لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث بالحق بشير ونذيرا. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين اعتصموا بربهم، وتوكلوا عليه في جهادهم، فمكّن لهم في البلاد، وأعزّهم بين العباد، وكان لهم نعم المولى ونعم النصير.
   أما بعد، فإنّ من سنن الله التي تجري عليها الوقائع والحوادث، المسماة في القرآن بأيام الله تحتاج إلى من يستخرجها ويذكِّر الناس بها، وهي تجري على البر والفاجر والمؤمن والكافر، قال تعالى عن نبيه موسى على نبينا وعليه السلام: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ". إبراهيم:5. 
   أيها المسلمون: في هذه الآية الكريمة توجيهٌ إلهي لنبي الله موسى على نبينا وعليه السلام أن يذكّر قومه بِـ "أيام الله". فما المقصود بهذه الأيام؟
     الأيام من الناحية الزمنية كلها أيام الله، فهو سبحانه خالق الزمان والمكان، وخالق كل ما يحيط بنا في هذا الكون الفسيح، إنما المقصود بالأيام، تلك الأزمنة التي انتصر الله تعالى فيها لأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، وتحقّقت فيها العزّة لدين الله والنصر لأوليائه ولقيم الحق، وعلى هذا يكون معنى الآية: ذكّرهم بأيام انتصارات الأنبياء والمؤمنين على أولئك الظالمين المعاندين.
     فكل يوم حصل فيه حدثٌ مصيري في تاريخ البشرية أو تاريخ مجتمع من المجتمعات، فإن ذلك اليوم يُعدُّ من أيام الله، لما فيه من عِبَر ودروس ومواعظ يتعلّم منها الإنسان، وتتعظ منها الشعوب والمجتمعات..
   عباد الله: وإن في تاريخ وطننا لأياما خالدة، ترسّخت في ذاكرة هذه الأمة وافترشت قلوب أبنائها، تروي مسيرة هذا الوطن الغالي على امتداد التاريخ. إنها محطاتٌ ناصعةٌ ومنعطفاتٌ تشكّل لحظات مصيرية تؤرّخ لهذا البلد العظيم الذي ارتوت أرضه بدماء من ضحّوا بحياتهم في سبيل أن ننعم بالحرية والاستقلال.    ..
   وما ذكرى يوم المجاهد إلا محطّة من أهم المحطات في تاريخ الجزائر التي تستحق كل الاهتمام والتقدير لاستلهام الأسلوب الفريد من نوعه في ثورة التحرير الجزائرية، وذلك في قهر المستحيل وجعله ممكنا!..
     محطة تذكرنا كل سنة بتاريخ تورتنا المباركة، إنها ذكرى مزدوجة، ذكرى هجومات الشمال القسنطيني 20 اوت 1955 وذكرى مؤتمر الصومام 20 اوت 1956. المؤتمر الذي تكلل بالنجاح الباهر، وحمل فيه الرجال المسؤولية التاريخية ليقولوا للعالم باسره بأن الشعب الجزائري متشبت بثورته المظفرة ملتف حولها مدعّم لركائزها وصفوفها، ملبّ لنداء أول نوفمبر 1954.
    أيها المسلمون: إن حدثي 20 أوت 1955 ذكرى هجوم الشمال القسنطيني و20 أوت 1956 ذكرى مؤتمر الصومام، هما من أهم وأكبر الأحداث التي عاشتها الثورة التحريرية في مواصلة طريقها الحافل والزاخر بالأحداث والتي دفعت بها إلى النجاح، كما تعتبر هذه الأحداث ترجمة لفلسفة فكر رجال الثورة التحريرية وإرادتها القوية في تحرير الجزائريين من العبودية التي فرضها عليهم الاستعمار الغاشم.
     إنها ذكرى تحمل في طياتها وفي تاريخ الثورة التحرير الجزائرية المباركة محطّات كبيرة هزّت فرنسا الإستدمارية، وكانت تعبيرا صادقا عن قوة وإيمان الشعب الجزائري بحتمية ثورة نوفمبر وتحدّيا كبيرا لأعتى قوة استعمارية وتحسيسها بأن إرادة الشعوب لا تقهر..
       فالإيمانٌ المتأصّل في نفوس الجزائريين والتضحيةٌ بالنفس في سبيل الله، هما الجانبان الأروعَ في ثورة التحرير. ثم الكبرياءٌ الشامخٌ الذي ميّز الشعب الجزائري الأعزل إلا من إيمانه بحقه وثقته بنفسه، ذلك هو الذي بثّ الرعب في نفس المستعمر الجبار المتسلح بكل وسائل التدمير الجهنمية، ولعلكم تذكرون تلك الصورة التي برز فيها التحدي مهيبا جليلا عندما واجه الشهيدـ "أحمد زبانة" مقصلة سجن بار باروس، فما رفّ له طرف، ولا تردّد له خطو، بل لقد استقبل الشهادة على ما وصفه الشاعر:
باسم الثغر كالملائك أو كالطفل* يستقـبل الصـباح السعيدا
شامخـا أنـفـــــــــه جـلالا   وتيهـــــــــــــــا   * رافــــــعا رأسه يناجي الخلودا
     اقرأوا ـ معي ـ هذه الرسالة التي كتبها الشهيد "أحمد زبانة " حينما الذي ألقى البوليس الفرنسي عليه القبض، وحكم عليه بالإعدام، وليلة التنفيذ صلى ركعتين، وقدّم هذه الرسالة إلى محاميه يقول فيها:
".. إلى أهلي الأعزاء... والدتي العزيزة، أكتب إليكم هذه الرسالة، وأنا لست أدري إن كانت الأخيرة – الله أعلم بذلك-غير أنه إذا حدث مكروه، فلا تعتقدوا أن كل شيء انتهى، لأن الموت في سبيل الله هو الخلود في الحياة الأزلية، والإستشهاد من أجل الوطن ليس إلا واجبا، فواجبكم  ـ أنتم-يتمثل في التضحية بأغلى ما لديكم .. لا تبكوا ... بل يجب أن تفخروا بي، تفضلوا بقبول السلام، ربما سيكون الأخير من الإبن والأخ الذي يحبكم وتحبونه دائما. سلامي إليك والدتي العزيزة وكـل مـن ... الخ". السـجن المدنـي بالجـزائر 19 جوان 1956.
      نعم ـ أيها المسلمون ـ إن هذا وإخوانه قاموا بأعظم دور بطولي على خير وجه، وما كانت دماؤهم لتذهب هدرا، بل ستظل ذكراهم حية في القلوب، وسيبقى جهادهم مشاعل مضيئة، قال تعالى: "والشـهداء عـند ربهم لهم أجرهم ونورهم".
       ولذا ونحن في هذا اليوم المبارك فلا ننسى أو نتناسى فضل من أكرمنا الله وأحسن إلينا بسببه، خصوصا إذا كان ذلك المحسن قد ضحى بحياته من أجل سعادتنا وسيادتنا، وهذا ما فعله الشهداء الأبرار من أجلنا، ولسان حالهم يقول:
واقـــض يا موت فيّ ما أنت قاض * أنا راض إن عاش شعبي سعيدا
أنا إن مت فالجــــــزائر تحـــــــــــيا  * حـــــــــرة مســــــتقلة لن تبيدا
  نسأل اللهَ سبحانه أن يغمر أرواحهم برحمته، وأن يمتّع المجاهدين الباقين بالصحة والعافية، وأن يمكّن لناشئتنا من أسباب الرقي والسؤدد ما يجعلهم خير خلف لخير سلف، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين.  صلى الله عليه وسلم.
   أما بعد، فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه تهتدوا، واذكروا في يومكم هذا أولئك، ولتحيا في نفوسكم المعاني التي كانوا يجسدونها ولتتعمق في قلوبكم المبادئ التي وهبوا حياتهم من أجلها، واعلموا أنه لا قيمة للتاريخ إذا كان قراءة للأحداث دون استيعاب ولَوْكًا للماضي دون عبرة وتغنّياً به من غير استخلاصِ الـموجب الخلاقِ لإثراء الحاضر بالتجارب العظيمة، ومــدِّه جسرا إلى الـمستقبل بمزيد من التصميم والحماســة والإقبال.
   ففي تاريخ هذا اليوم درسا يهزّ منا السواكن، ويَشحَذ فينا الإرادة، ويُهيئ لنا ولكم أيها الشباب السّبل القويمة للإتعاظ بعبَر الأسلاف.. فليعلم الجميع أنّ الأمنَ واللحمةَ الوطنية وتماسكَ المجتمع وحمايةَ المُقدَّسات هي أعلى وأغلى ما نملِك بعد عزِّ الإسلام وحفظ الدين، وأن هذا الوطن ـ بعون من الله ـ شارك في صنعه آباؤنا وأجدادنا، ويسهر عليه ـ بتوفيق من الله ـ رجال من أبناء هذا الوطن، يحفظون أمننا ومقدَّساتنا وسعادتنا وأحوالنا وأموالنا وأنفسنا وأهلينا.
     والسّاحة للصادقين المخلصين، والانتماء الوطني هو الأغلى، وتيّار الحقّ والكرامة هو الأقوى، في عدالة سائدة وحرية منضبطة وشعور جماعيّ بالحفاظ على الوطن والممتلكات والمكتسبات، والبعد والتصدّي لكلّ فتنة أو مسلك أو دعوة تهدّد الوطن ووحدته والمجتمع وعيشه. ألا فكونوا صفّا واحدا في كتيبة واحدة متراصّة لمواصلة الطريق، متعاونين على البرِ والتّقوى لا على الإثم والعُدوان، وحافظوا على تراثكم المجيد، ومجدكم العظيم، الذي ورثتموه عن أسلافكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون.
      نسأل اللهَ سبحانه أن يغمر أرواح شهدائنا ـ الذين عبدوا لنا طريق العزة والكرامة ـ برحمته، وأن يمتّع المجاهدين الباقين بالصحة والعافية، وأن يمكّن لناشئتنا من أسباب الرقي والسؤدد ما يجعلهم خير خلف لخير سلف..اللهم وبارك في الجزائر، أرضِها وسمائها وأكثر خيرها في بَرِّها ومائها، واجعلها بلدا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.