19 أغسطس 2017

الموضوع: يوم المجاهد



الموضوع: يوم المجاهد

الخطبة الأولى
الحمد لله، حمد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا، وأشهد أن لا إله إلا الله، لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث بالحق بشير ونذيرا. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين اعتصموا بربهم، وتوكلوا عليه في جهادهم، فمكّن لهم في البلاد، وأعزّهم بين العباد، وكان لهم نعم المولى ونعم النصير.
   أما بعد، فإنّ من سنن الله التي تجري عليها الوقائع والحوادث، المسماة في القرآن بأيام الله تحتاج إلى من يستخرجها ويذكِّر الناس بها، وهي تجري على البر والفاجر والمؤمن والكافر، قال تعالى عن نبيه موسى على نبينا وعليه السلام: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ". إبراهيم:5. 
   أيها المسلمون: في هذه الآية الكريمة توجيهٌ إلهي لنبي الله موسى على نبينا وعليه السلام أن يذكّر قومه بِـ "أيام الله". فما المقصود بهذه الأيام؟
     الأيام من الناحية الزمنية كلها أيام الله، فهو سبحانه خالق الزمان والمكان، وخالق كل ما يحيط بنا في هذا الكون الفسيح، إنما المقصود بالأيام، تلك الأزمنة التي انتصر الله تعالى فيها لأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، وتحقّقت فيها العزّة لدين الله والنصر لأوليائه ولقيم الحق، وعلى هذا يكون معنى الآية: ذكّرهم بأيام انتصارات الأنبياء والمؤمنين على أولئك الظالمين المعاندين.
     فكل يوم حصل فيه حدثٌ مصيري في تاريخ البشرية أو تاريخ مجتمع من المجتمعات، فإن ذلك اليوم يُعدُّ من أيام الله، لما فيه من عِبَر ودروس ومواعظ يتعلّم منها الإنسان، وتتعظ منها الشعوب والمجتمعات..
   عباد الله: وإن في تاريخ وطننا لأياما خالدة، ترسّخت في ذاكرة هذه الأمة وافترشت قلوب أبنائها، تروي مسيرة هذا الوطن الغالي على امتداد التاريخ. إنها محطاتٌ ناصعةٌ ومنعطفاتٌ تشكّل لحظات مصيرية تؤرّخ لهذا البلد العظيم الذي ارتوت أرضه بدماء من ضحّوا بحياتهم في سبيل أن ننعم بالحرية والاستقلال.    ..
   وما ذكرى يوم المجاهد إلا محطّة من أهم المحطات في تاريخ الجزائر التي تستحق كل الاهتمام والتقدير لاستلهام الأسلوب الفريد من نوعه في ثورة التحرير الجزائرية، وذلك في قهر المستحيل وجعله ممكنا!..
     محطة تذكرنا كل سنة بتاريخ تورتنا المباركة، إنها ذكرى مزدوجة، ذكرى هجومات الشمال القسنطيني 20 اوت 1955 وذكرى مؤتمر الصومام 20 اوت 1956. المؤتمر الذي تكلل بالنجاح الباهر، وحمل فيه الرجال المسؤولية التاريخية ليقولوا للعالم باسره بأن الشعب الجزائري متشبت بثورته المظفرة ملتف حولها مدعّم لركائزها وصفوفها، ملبّ لنداء أول نوفمبر 1954.
    أيها المسلمون: إن حدثي 20 أوت 1955 ذكرى هجوم الشمال القسنطيني و20 أوت 1956 ذكرى مؤتمر الصومام، هما من أهم وأكبر الأحداث التي عاشتها الثورة التحريرية في مواصلة طريقها الحافل والزاخر بالأحداث والتي دفعت بها إلى النجاح، كما تعتبر هذه الأحداث ترجمة لفلسفة فكر رجال الثورة التحريرية وإرادتها القوية في تحرير الجزائريين من العبودية التي فرضها عليهم الاستعمار الغاشم.
     إنها ذكرى تحمل في طياتها وفي تاريخ الثورة التحرير الجزائرية المباركة محطّات كبيرة هزّت فرنسا الإستدمارية، وكانت تعبيرا صادقا عن قوة وإيمان الشعب الجزائري بحتمية ثورة نوفمبر وتحدّيا كبيرا لأعتى قوة استعمارية وتحسيسها بأن إرادة الشعوب لا تقهر..
       فالإيمانٌ المتأصّل في نفوس الجزائريين والتضحيةٌ بالنفس في سبيل الله، هما الجانبان الأروعَ في ثورة التحرير. ثم الكبرياءٌ الشامخٌ الذي ميّز الشعب الجزائري الأعزل إلا من إيمانه بحقه وثقته بنفسه، ذلك هو الذي بثّ الرعب في نفس المستعمر الجبار المتسلح بكل وسائل التدمير الجهنمية، ولعلكم تذكرون تلك الصورة التي برز فيها التحدي مهيبا جليلا عندما واجه الشهيدـ "أحمد زبانة" مقصلة سجن بار باروس، فما رفّ له طرف، ولا تردّد له خطو، بل لقد استقبل الشهادة على ما وصفه الشاعر:
باسم الثغر كالملائك أو كالطفل* يستقـبل الصـباح السعيدا
شامخـا أنـفـــــــــه جـلالا   وتيهـــــــــــــــا   * رافــــــعا رأسه يناجي الخلودا
     اقرأوا ـ معي ـ هذه الرسالة التي كتبها الشهيد "أحمد زبانة " حينما الذي ألقى البوليس الفرنسي عليه القبض، وحكم عليه بالإعدام، وليلة التنفيذ صلى ركعتين، وقدّم هذه الرسالة إلى محاميه يقول فيها:
".. إلى أهلي الأعزاء... والدتي العزيزة، أكتب إليكم هذه الرسالة، وأنا لست أدري إن كانت الأخيرة – الله أعلم بذلك-غير أنه إذا حدث مكروه، فلا تعتقدوا أن كل شيء انتهى، لأن الموت في سبيل الله هو الخلود في الحياة الأزلية، والإستشهاد من أجل الوطن ليس إلا واجبا، فواجبكم  ـ أنتم-يتمثل في التضحية بأغلى ما لديكم .. لا تبكوا ... بل يجب أن تفخروا بي، تفضلوا بقبول السلام، ربما سيكون الأخير من الإبن والأخ الذي يحبكم وتحبونه دائما. سلامي إليك والدتي العزيزة وكـل مـن ... الخ". السـجن المدنـي بالجـزائر 19 جوان 1956.
      نعم ـ أيها المسلمون ـ إن هذا وإخوانه قاموا بأعظم دور بطولي على خير وجه، وما كانت دماؤهم لتذهب هدرا، بل ستظل ذكراهم حية في القلوب، وسيبقى جهادهم مشاعل مضيئة، قال تعالى: "والشـهداء عـند ربهم لهم أجرهم ونورهم".
       ولذا ونحن في هذا اليوم المبارك فلا ننسى أو نتناسى فضل من أكرمنا الله وأحسن إلينا بسببه، خصوصا إذا كان ذلك المحسن قد ضحى بحياته من أجل سعادتنا وسيادتنا، وهذا ما فعله الشهداء الأبرار من أجلنا، ولسان حالهم يقول:
واقـــض يا موت فيّ ما أنت قاض * أنا راض إن عاش شعبي سعيدا
أنا إن مت فالجــــــزائر تحـــــــــــيا  * حـــــــــرة مســــــتقلة لن تبيدا
  نسأل اللهَ سبحانه أن يغمر أرواحهم برحمته، وأن يمتّع المجاهدين الباقين بالصحة والعافية، وأن يمكّن لناشئتنا من أسباب الرقي والسؤدد ما يجعلهم خير خلف لخير سلف، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين.  صلى الله عليه وسلم.
   أما بعد، فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه تهتدوا، واذكروا في يومكم هذا أولئك، ولتحيا في نفوسكم المعاني التي كانوا يجسدونها ولتتعمق في قلوبكم المبادئ التي وهبوا حياتهم من أجلها، واعلموا أنه لا قيمة للتاريخ إذا كان قراءة للأحداث دون استيعاب ولَوْكًا للماضي دون عبرة وتغنّياً به من غير استخلاصِ الـموجب الخلاقِ لإثراء الحاضر بالتجارب العظيمة، ومــدِّه جسرا إلى الـمستقبل بمزيد من التصميم والحماســة والإقبال.
   ففي تاريخ هذا اليوم درسا يهزّ منا السواكن، ويَشحَذ فينا الإرادة، ويُهيئ لنا ولكم أيها الشباب السّبل القويمة للإتعاظ بعبَر الأسلاف.. فليعلم الجميع أنّ الأمنَ واللحمةَ الوطنية وتماسكَ المجتمع وحمايةَ المُقدَّسات هي أعلى وأغلى ما نملِك بعد عزِّ الإسلام وحفظ الدين، وأن هذا الوطن ـ بعون من الله ـ شارك في صنعه آباؤنا وأجدادنا، ويسهر عليه ـ بتوفيق من الله ـ رجال من أبناء هذا الوطن، يحفظون أمننا ومقدَّساتنا وسعادتنا وأحوالنا وأموالنا وأنفسنا وأهلينا.
     والسّاحة للصادقين المخلصين، والانتماء الوطني هو الأغلى، وتيّار الحقّ والكرامة هو الأقوى، في عدالة سائدة وحرية منضبطة وشعور جماعيّ بالحفاظ على الوطن والممتلكات والمكتسبات، والبعد والتصدّي لكلّ فتنة أو مسلك أو دعوة تهدّد الوطن ووحدته والمجتمع وعيشه. ألا فكونوا صفّا واحدا في كتيبة واحدة متراصّة لمواصلة الطريق، متعاونين على البرِ والتّقوى لا على الإثم والعُدوان، وحافظوا على تراثكم المجيد، ومجدكم العظيم، الذي ورثتموه عن أسلافكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون.
      نسأل اللهَ سبحانه أن يغمر أرواح شهدائنا ـ الذين عبدوا لنا طريق العزة والكرامة ـ برحمته، وأن يمتّع المجاهدين الباقين بالصحة والعافية، وأن يمكّن لناشئتنا من أسباب الرقي والسؤدد ما يجعلهم خير خلف لخير سلف..اللهم وبارك في الجزائر، أرضِها وسمائها وأكثر خيرها في بَرِّها ومائها، واجعلها بلدا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ليست هناك تعليقات: