23 أغسطس 2017

الموضوع: وأقبلت أفضل أيام الدنيا ـ عشر ذي الحجة


الخطبة الأولى
    الحمد لله رب العالمين، نحمده حمد الشاكرين، سبحانه سبحانه، هو أكبر من كل كبير، وله الخلق والتدبير وإليه المرجع والمصير وهو نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.  وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
      أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه، فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصل، وهي العدّة العتيدة لمن رام خيرًا وصلاحًا، ونَشَد عزًا وفلاحًا، وقَصد برًّا وتوفيقًا ونجاحًا.
أيها المسلمون: ها هي قد هلّت علينا أفضل أيام الدنيا، أيام رفع الله ذكرها وعظّم وأعلى قدرها، حيث أقسم بها في كتابه العزيز فقال: "والفجر وليال عشر والشفع والوتر.."،  أيام يكثر فيها الخير وتهبط فيها الرحمة ويعم فيها الفضل والإحسان على قصّاد البيت الحرام، والطائفين بالكعبة والمقام والذاكرين الله عند المشعر الحرام .
    هذه الأيام المباركة يكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن فضلها ويعلن عن خيرها وشرفها، فيقول فيما رواه البيهقي: "وما من أيامٍ العملُ الصالح فيها أحب إلى الله من عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء". 
فأي فضل هذا ـ عباد الله ـ وأي موسم للخيرات، وأي باب لجمع الحسنات.  الجهاد الذي هو أفضل العمل بعد الإيمان بالله والصلاة لوقتها ما لم يكن في هذه العشر، فالعمل فيها أحب إلى الله منه.
     يا له من موسم يُفتَح للمتنافسين، ويا له من غبن يَحِيق بالقاعدين والمعرضين. فاستبقوا الخيرات يا عباد الله، وسارعوا إلى مغفرة من الله وجنة عرضها الأرض والسماوات..
     ألا وإن من الأعمال الصالحة التي يستعد لها المسلمون في هذه الأيام في مشارق الأرض ومغاربها: تقديم الأضاحي.
والأضحية– عباد الله – مشروعة بالكتاب والسنة وبإجماع علماء المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا". رواه ابن ماجة.
     فاشكروا الله ربكم على ما أنعم به عليكم من بهيمة الأنعام، وضحّوا عن أنفسكم وأهليكم، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، حيث ضحى عنه وعن أهل بيته. قال أنس رضي الله عنه: "ضحّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين– أي أبيضين خالصين– أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبر ووضع رجله على صفاحهما". رواه البخاري.
   هذا واعلموا: أن العبادة المرضية عند الله، هي تلك التي تصحبها النية الصالحة ويسري فيها روح الإخلاص، قال الله تعالى: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم". الحج:37.
    والأضحية تكون من بهيمة الأنعام، من الإبل أو البقر أو الضأن على اختلاف أصنافها، ولا تجزئ إلا بشر طين:
 الأول: أن تبلغ السن المعتبر شرعا.
الثاني: أن تكون سليمة من العيوب.
    أما السنّ المعتبر: قال الشيخ خليل رحمه الله: "بجذع ضأن وثنيّ معز وبقر وإبل ذي سنة وثلاث وخمس". قال: الإمام مالك رحمه الله في المدونة: "لا تجزئ ما دون الثنيّ من سائر الأنعام في الهدايا والضحايا، إلا الضأن وحدها فإن جذعها يجزئ". والجذع: هو ما أوفي سنة أو قاربها، وقيل ماله عشرة أشهر وقيل ستة أشهر، والقول الأول أولى وأوفى. لما قرأناه في حاشية العدوي رحمه الله: "أن الشاة الجذعة ما أوفت سنة وشرعت في الثانية". قال صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنّة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن، والمسنّة من الأنعام وهي الثنيّة". رواه مسلم.
    أما السلامة من العيوب: فقد علمتم أنه لا يجوز في الأضاحي سوى السليمة من كل نقص في خليقتها، فلا تجزئ العوراء ولا العرجاء ولا العضباء– أي مكسورة القرن من أصله- أو مقطوعة الأذن من أصلها، ولا المريضة ولا العجفاء، وهي الهازل التي لا مخ فيها، وذلك لحديث البراء بن عازب ـ  رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ماذا يتقى من الضحايا، فأشار بيده وقال: أربعا. وكان البراء يشير بيده، ويقول يَدِي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم: العرجاء البيّن ظلعها والعوراء البيّن عورها والمريضة البيّن مرضها والعجفاء التي لا تنقي". رواه الإمام مالك.
     أيها المسلمون: وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل، فاستكملوها واستسمنوها واستحسنوها، يتقبل الله منا ومنكم. أعـوذ بالله من الشيطان الرجيم: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرِ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأْبْتَرُ".  وقال تعالى: "وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ".. 
 نفعني الله وإياكم بما قلت وأستغفر الله لي ولكم...         
الخطبة الثانية
     الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
   وبعد، أيها المسلمون: ومن الأعمال الصالحة في شهرنا هذا صوم يوم عرفة. روى مسلم وغيره من حديث قتادة رضي الله عنه، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة، قال: "يكفر السنة الماضية والباقية". وقال الإمام الغزالي رحمة الله عليه: "إن يوم عرفة أفضل يوم في الدنيا". وتأملوا معي ما ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رؤي الشيطان في يوم أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة". رواه الإمام مالك.
  إنه اليوم الذي تمنى اليهود عليهم لعائن ربي المتتابعة إلى يوم القيامة أن يكون عندهم ليتخذوه عيدا، أخرج البخاري عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا.  قَالَ أَيُّ آيَةٍ؟. قَالَ: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا". قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ .
ألا وإن يوم عرفة ـ أيها المسلمون ـ يومٌ يرجى فيه إجابة الدعاء، وبهذا أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فعن عَمْرِو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"؛ رواه الترمذي. فعلى المسلم أن يتفرغ للذكر والدعاء والاستغفار في هذا اليوم العظيم، وليدع لنفسه ولِوالديْه ولأهله وللمسلمين...
     فأبواب الرحمة والمغفرة والرضوان مفتوحة، فلنتق الله ولنغتنم هذه الأيام الفاضلة، فإنها أيام طيبة مباركة تـضـاعف فيـهـا الحسنات كما علمتم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلـم، واعلموا أن لكل عامل جزاء ولكل مفرّط ندامة.
  وفقني الله وإياكم لتعظيم شعائره والعمل بشريعته، والوفاة عليها إنه جواد كريم، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأهل علينا هلال ذي الحجة بالأمن والإيمان والسلام والإسلام، ووفقنا فيه وفي كل وقت لكل عمل تحبه وترضى به عنا، اللهم ربنا وآتنا في الدنيا حــسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق