الموضوع: الرجال لا يولدون..
بل يُصنعون.
الخطبة الأولى
الحمدُ لله تفرَّدَ عزًّا وكمالاً واختصّ بهاءً
وجلالاً، أحمده وأشكره تقدّس وتنزّه وتعالى، وأسأله جلّ في علاه إصلاحَ الشّأن
حالاً ومآلاً. ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له أمرَ بعبادته غدوًّا
وآصالاً وحذّرنا من التفريط والإهمال فما لكم لا ترجون لله وقارا، ونشهدُ أنَّ
محمدا عبد الله ورسوله الداعي إليه سِرَّا وإعلانا والمنزَّلُ عليه قولُه تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسَكم وأهليكم نارا". صلّى الله عليه وعلى
آله وصحبه الذين بلَغوا من المجد ظلالاً والتّابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم
الدّين وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فقد روى
البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا لفظ البخاري قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا يولد
على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل
تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة-رضي
الله عنه: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
أيها المسلمون: إن
الرجال لا يولدون بل يصنعون، فالأطفال وخصوصا في سنواتهم الأولى قلوبهم طاهرة
جواهر نفيسة خالية من كل نقش وصورة وهم قابلون لكل ما ينقش عليها، فإن عُوِّدُوا
الخير والمعروف نشأوا عليه وسُعِدوا في الدنيا والآخرة وشاركوا في ثواب والديهم
ولحقتهم دعواتهم، وإن عُوِّدُوا الشر والباطل شقُوا وهلكُوا وكان الوِزْرُ في رقبة
والديهم. وما أجمل مقولة عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "الصلاح من الله
والأدب من الآباء"، وما أجمل عبارة: "إن وراء كل رجل عظيم أبوين
مربيين"، وكما يقول بعض أساتذة علم النفس: "أعطونا السنوات السبع الأولى
للأبناء نعطيكم التشكيل الذي سيكون عليه الأبناء"، وقال الشاعر:
وينشأُ ناشئُ الفتيانِ مِنا * على ما
كان عَوَّدَهُ أبُوهُ
ومن هنا يجب أن
نقول: إنه على الأب أو الأم وعلى المربي بوجه عام أن يتمتَّع بشخصية قوية حازمة في
تربية ابنائه، وهذا لا ينفي أبدا إبداءُ الحنان والمحبة والعطف عليهم. وإنه
من المعلوم أن الطفل يقوم بأنواع كثيرة من السلوكيات بعضها يقوم بها عشوائيًا
لاكتساب التجارب الحياتية وبعضها تقليدًا للأفراد الذين يراهم في محيطه، أو ما
يراه في الأجهزة المرئية من تلفزيون وغيره، وواجب الأبوين ملاحظة هذا السلوك
وتعديل الخاطئ منه وتشجيعه على ما يكون صوابًا. فالأبناء في صغرهِم أكثرُ استقبالاً واستفادةً من التربية.
قد ينفعُ الأدبُ الأولادَ في صغرٍ * وليس
ينفعُهم من بعـده أدبُ
الغصـونُ إذا عـدلتها اعتـدلت * ولا
يلينُ ولو لينتـهُ الخشب
والحزم في تربية
الأولاد هو أسلوب المربي الناجح، وهو كما أراه ويراه غيري: القوة مع المرونة، أي
حزمٌ ولكن منبعه الرحمة حزمٌ وسطٌ بين القسوة والغضب وبين التدليل الزائد والضعف
في المعاملة. وبهذا وصّى
الخليفة هارون الرشيد مؤدبَ ولده الأمين: "ولا تُمْعِن في مسامحته فيَسْتَحْلِيَ
الفراغ ويألفه وقوٍّمه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة
والغلظة".
وفي كل الأحوال ـ أيها الآباء والأمهات ـ عليكم
بالتوازن والحكمة في تربيتهم وفي معاملتهم حتى لا تفقدوهم قبل أن يفقدوكم واغتنموا سنين العمر الذهبية عند
الصغير بالتربية الجادة من أقوى وأرسخ أنواع التربية.
إننا نريده حزماً كالدواء
يُحتاج إليه في حالات معينة قد سبقها محاولات أخرى باللين متعددة الطرق والوسائل،
حزما يحتاج المربي إليه ـ الوالد أو المربي ـ عند الضرورة وهو آخر العلاج والدواء، وكما قيل:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما * فليقسُ أحيانا
على من يرحم
كتب ابن الجوزي في
كتابه صيد الخاطر عن التربية فقال: "فإنك إن رحمت بكاءه لم تقدر على فطامه
ولم يمُكنْك تأديبه فيبلغ جاهلاً فقيرًا!". أي: أنك لو رحمت بكاء
الإبن في كل مرة تعاقبه على خطأ أو تحرمه من مكافأة رغبة في تربيته فلو رحمته
ومنعت العقاب فإنك لن تستطيع تربيته وتقويمه أبدًا، ويكبر وقد أصبح شخصًا غير
صالح. يروي لنا التاريخ أن عمر بن عبد العزيز كان قد أرسله أبوه وهو شاب صغير إلى
المدينة المنورة ليتعلّم فيها الفقه وعلوم الدين وكان صالح بن كيسان مؤدّبه والقائم
على أمر ملازمته وتوجيهه وإرشاده. وذات يوم انتبه هذا المؤدّب أن عمر بن عبد
العزيز لم يحضر صلاة الجماعة وتخلف عنها فذهب إليه ليستطلع الأمر.
فسأله قائلاً: ما
أخّرك عن صلاة الجماعة؟.
فأجاب عمر: كانت
مرجّلتي تسكّن شعري.
فأجابه صالح متعجباً:
وبلغ من تسكين شعرك أنه يؤخرك عن الصلاة؟!.
وكتب بذلك إلى أبيه
عبد العزيز بن مروان، فما كان من أبيه إلا أن أمر بحلق رأسه تأديباً له وتربية
وتعليماً حتى لا يعود لمثلها. (سير أعلام النبلاء 9/133).
لقد فهم هذا
المعلم وذلك الأب أن صناعة الرجال لها أسس وقوانين ولها أسباب ووسائل يأتي الحزم
على رأسها حيث أن الخطأ له اسم واحد هو الخطأ لا غير، وحيث أن الحق له مظهر ثابت
وهو أنه ميزان العدل ومظهر الرحمة. إنها الشدة والحزم في ضبط الأمور وحسن التصرف
تجاه أخطاء الأبناء، ولكن بحكمة وحبٍّ وبهدف إصلاح الخطأ والتوجيه نحو الأفضل دون إبطاء أو تراخ أو تجاهل، ولا يصنع الرجال إلا من هذا
المضمار ولا يتخرجون إلا من مدرسة المتابعة والتقويم المستمر.
وهذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد وضع لنا منهجا نبويا خالدا مؤسِّسا لأساليب التربية الصحيحة للفرد،
ابتداء من مرحلة الطفولة المبكرة وذلك في مواقف كثيرة، منها موقفه مع سَلَمة ابن
أم سلمة وكان ربيبه نشأ في حِجْر النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تزوج بأمه. جلس سلمة إلى طعامه وهو بعد صبيا فأخذت يده تطيش
في الصفحة، فأمسك بها رسول الله قائلا له: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل
مما يليك". إنه تدخُّلٌ فوريٌ لإيقاف
السلوك الخاطئ حتى مع الصغير الذي لا يعي ما يفعل وعدم تأخير التوجيه عن وقته .
أيها المسلمون:
ببالغ الأسى وشديد الأسف لو التفتنا حولنا لوجدنا تقصيرا كثيرا من الآباء والأمهات
في حق أبنائهم، بل أجزم أن بعض الآباء لا يدري عن ابنه أين ينام؟ وأين يذهب؟ ومن
أين يأكل؟ ومن أين يأخذ مصروفه؟ بل بعضهم لا يدري في أيَّة سنةٍ يدرس أبناؤه؟!. أما هل يصلي أم لا فتلك الطامة الكبرى؟.
فهل يقال: إنه
يجب أن نعيد تربية الآباء ليقوموا بدورهم نحو أبنائهم كما يجب؟. إن الذى يُلام
عليه الأب بشدة ويُنتقَد بسببه بقوة هو عدم وفائه بالتزامات ابنائه من متطلبات
التربية ومسؤولية الأمانة. أمانةٌ فرط فيها واستهان بأمرها ولم يرْعَها حق رعايتها
فأضاع أولاده وأهمل تربيتهم، فلا يسأل عنهم ولا يوجههم وإذا رآى منهم تمردًا أو
انحرافًا بدأ يتذمّر ويشكو من ذلك وما علم أنه هو السبب الأول في ذلك التمرد
والانحراف. إن إهمال تربية الأبناء جريمة يترتب عليها أَوْخَم العواقب كما قال
الشاعر:
إهمالُ تربية البنين جريمةٌ *عادت على
الآباء بالنكباتِ
أيها
المسلمون: إن أبناءنا
يتعرّضون إلى حرب هي من أشدّ الحروب الفكرية والعقائدية بهدف إخراجهم عن قيمهم
ومبادئهم واخلاقهم تحت اسم التطور والموضة مما جعلهم يهتمّون بالمظهر لا بالمخبر
وبالإكسسوارات لا بالحياء والإيمانيات مما ينذر بخطر كبير على الإيمان والأخلاق
والعقيدة والعفة والحياء والفضيلة. انظروا يمينا وشمالا فهذه موضة قصات الشعر
العجيبة والسلاسل الذهبية على الأعناق، بل انظروا إلى سراويل "الجينز"
التي وكأن لها سنين طويلة لم تلبس والسراويل ذوات الخصر المنخفض الساقطة إلى أسفل لَبِسوها
لأن الغرب هكذا لبسها. وكثيرة.. كثيرة هي مظاهر الخروج عن اللّياقات الأخلاقيّة
والتقاليد المعروفة في بلدنا العربي المسلم من الجنسين على السواء. تبعيةٌ عمياء
وتقليدٌ أرعن. والله إنك لتنظر في بعضهم ولا تدري أهو رجل أم امرأة من تسريحة شعره
ولباسه ومشيته؟، وما تدري أهي امرأة أم رجل من تسريحة شعرها ولباسها ومشيتها؟.
وقانا الله وأبناءنا وبناتنا كل شر ومكروه. ونعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن
الظلام بعد النور.
ا للهم اهد شباب
المسلمين من بنات وبنين، وردّ ضالهم إليك رداً جميلاً، اللهم جنبهم رفقاء السوء،
وأصحاب الفساد، اللهم جنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأقر أعيننا بصلاحِ جميع
أولادِ المسلمين. بيدك الخير، وإنك على كل
شيء قدير. أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية
الحمد لله الكبير المتعال،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعلى صحبه والآل.
أما بعد، عباد
الله: وليس غريبا أنْ يقعَ من أبنائنا وبناتنا الخطأ فهم كغيرِهم من الناس يخطئون
ويصيبون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ بني آدمَ خطّاءٌ وخيرُ
الخطائينَ التوّابونَ ". ولكنَّ الخطأ أنْ نتفرَّجَ على الأخطاء ولا نسعى لعلاجها. ولقد أخبر النبي صلى الله
عليه وسلم الآباء والأمهات أنهم مسؤولون عمّن تحت أيديهم من الأبناء والبنات
وغيرهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويقول: "أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ
رَاعِيَةٌ عَلَى أهل بَيْتِ زوجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وعبد
الرجل رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلاَ فَكُلُّكُمْ
رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". متفق عليه.
وإنها مسئوليةٌ جسيمة وأمانةٌ عظيمة فالواجب على كل والد أن يتقي
الله في أولاده وأن يعمل على تأديبهم وتربيتهم وتنشئتهم على عقائد الدين وأعمال
الإسلام وآدابه العظيمة وأن يعمل على تنشئتهم النشأة الصالحة على أساسٍ من تقوى
الله جل وعلا والقيام بحقوقه جل في علاه.
أيها الآباء
والأمهات: إن الحديث في هذا الموضوع طويلٌ دقيق وتصعبُ الإحاطةُ به، ولكن كما قيل:
يكفي من القلادةِ ما أحاطَ بالعنق. وهذه إيماءة أو إشارة ارتأيت أن أقدها لكم ولها
ما وراءها، ولا أريدكم ان تكونوا كالعزيز بن مروان فليس ابنكم كعمر بن عبد العزيز
فالطبيعة الإنسانية مختلفة وكل قفل له مفتاحه وكل عقل له ما يثير اهتمامه. أطفالنا فلذات أكبادنا تمشي على الأرض فلنحسن
التعامل معهم...
نسأل الله الذي وهبنا
إياهم وحمّلنا هذه المسؤولية أن يعيننا عليها وأن يصلح لنا نياتِنا وذرياتِنا،
اللهمَّ اجعلنا وأبناءنا وبناتنا هداة مهتدين، اللهمَّ اكفنا وإياهم شرَّ الأشرار
وكيد الفجار يا عزيزُ يا غفَّار. وحبب إلينا وإليهم الإيمان وزينهُ في قلوبنا
وقلوبهم وكره إلينا وإليهم الكفر والفسوق والعصيان. "رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا
قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا"، اللهم أعنا على
ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، اللهم
ارفع عنا الغلاء والوباء وقنا الزلازل والمحن وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين، آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق