26 أكتوبر 2017





الموضوع: ذكر الله علاج للقلق
الخطبة الأولى
      إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون". "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا". "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما".
       أما بعد، فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وبتعمير أوقاتكم بذكر الله، فالذكر مَظهرٌ لشكر نعم الله وأمانٌ من الغفلة عن الله وحياةٌ للقلوب، وقد أفلح ـ والله ـ من كان لسانه رطبا بذكر الله، قال تعالى: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب". الرعد:29.  
    أيها المسلمون: لقد أطلق العلماء والباحثون والمؤرخون على كل عصر من العصور اسما يميزه عن غيره من العصور، فقد وصف القرن السابع عشر بعصر النور. ووصف القرن الثامن عشر بأنه عصر العقل، والقرن التاسع عشر بعصر التقدم، وقد يوصف القرن الذي نحن فيه بعصر القلق، لأنه قد سُجّل فيه ـ والله نسأل العافية ـ تزايدا مستمرا لداء القلق الذي أصبح ينتاب الجميع.
    وإنّ أيّ عاقل حصيف لا ينكر أن الإنسان الآن يعيش في أزمة نفسية رهيبة لا أمنٌ ولا سلام ولا راحة ولا اطمئنان، ولقد أثبتت الإحصائيات تزايد عدد المتعاطين للمخدّرات والمسكّرات وكثر عدد المتردّدين على مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية، ناهيكم عمّا نسمع من حين لآخر عن حالات الانتحار، وصدق الله إذ يقول: "ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى". ولقد عدد بعض العارفين ما يتولد عن الغفلة والمعصية فقال: قلة التوفيق في العمل وفساد القلب وخمود الفكر ونفرة الخلق ومنع إجابة الدعاء، ومحق البركة في الرزق والعمر وضيق الصدر، وطول الهم والغم.
   عباد الله: إن من يتبطّن القرآن الكريم ويتعمّقه، ويتّبع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته يجد أن الإسلام عــــالج هذا الداء  ـ داء القلق والحيرة والإضطراب النفسي ـ، وقد توالت الإرشادات الحكيمة والتعاليم القويمة للحفاظ على الإنسان ووقايته من الأمراض النفسية التي تؤدي به إلى أوخم العواقب في نفسه وفي أسرته وفي مجتمعه.
    فالقلِق تراه في الحياة فزعا لا تثبت له قدم في عمل، ولا يستقرّ له قول على رأي، ولا يتمّ له نجاح في مشروع، ينتهي كلما بدأ، ويقعُد كلما قام. متبرِّمٌ ضجِرٌ سئمٌ ملولٌ. وإن دواءه لفي مدارسة القرآن، قال تعالى: "وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا".  الإسراء: 82.
     نعم.. يخرج الإنسان في الصباح من بيته ليباشر عمله ويخالط الناس، فتعرض له مشكلات جمة، تضطرب أحوال عيشه، لأن مَجالِبَ الهموم وبواعث القلق في هذه الحياة لا حصر لها، لكن اللجوء إلى الله عونٌ للمرء في شدته، وعدّة لتخفيف الهموم، وتفريج الأزمات. فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما أصاب عبدا همٌّ ولا حزن فقال: "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمتك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سيمت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي، إلا أذهب الله غمّه، وأبدله مكانه فرحا، قالوا يا رسول الله: أفلا نتعلمهن؟، قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن". رواه الإمام أحمد.
    إن كثيرا من الناس يستسلمون للمجهول عندما يملك الهمّ نفوسهم ويَشغَلً القلق صدورهم، فتراهم يفزعون إلى الأطباء والصيادلة، وربما إلى المشعوذين والسحرة، وماذا عليهم لوا آتوا البيوت من أبوابها، وفزِعوا إلى الله. فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقا أصابني، فقال: قل: "اللهم غارت النجوم وهدأت العيون وأنت حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم يا حيُّ يا قيوم أهدئ ليلي وأنم عيني فقلتها فأذهب الله عنيّ ما كنت أجد".  رواه الطبراني.
     إن دواءنا في أيدينا فلسنا مرضى، وسعادتنا في أيدينا فلسنا أشقياء، فعلينا بالمبادرة والمسارعة إلى الدواء والشفاء. قال جعفر الصادق رضي الله عنه: عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله سبحانه: "حسبنا الله ونعم الوكيل"؟. فإني سمعت الله يقول بعقبها: "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء"، وعجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"؟، فإني سمعت الله يقول بعقبها: "فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين". وعجبت لمن مُكر به كيف لا يفزع إلى قوله: "وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد"؟. فإني سمعت الله يقول بعقبها: "فوقاه الله سيئات ما مكروا".
    عباد الله: لا سعادة كراحة الضمير واطمئنان القلب، فلا المال ولا العلم ولا الحُكم ولا كلها مجتمعة تأتي بالسعادة، إذا لم تأت باطمئنان القلب وراحة البال، وهذا لا يكون إلا بالإيمان بالله، والإكثار من الإستغفار وقراءة القرآن. ولو تنبّه المسلمون لهذا. والتزموا الأوراد والأذكار، لما تجرأ بعد ذلك ساحر ولا احتار مسحور ولا قلّت بركة، ولا تكدّر صفْوٌ، ولا تنغّص هناء ولا اضطربت الأعصاب ولا انتشر داء القلق، كيف يحدث هذا؟ وكيف ينسى المسلم ربه؟ .
    إنّ الأطباء النفسيين يجمعون على أن علاج القلق والتوتر العصبي والتأزّم النفسي يتوقف ـ إلى حد كبير ـ على الإفضاء بمبعث التوتّر ومنشأ الأزمة إلى صديق قريب أو ولي حميم، فإذا لم يجد المسلم من يفضي إليه، فكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا. ففي الإتصال بالله سبحانه قوة للنفس ومدد للعزيمة وطمأنينة للروح، ألم يجعل الله الصـلاة سلاحا للمؤمن يستعين بها في معركة الحياة، ويواجه به كوارثها وآلامها؟، ألم يقل سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين". البقرة:153. ألم يكن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ"إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة". إنه القائل عليه الصلاة والسلام: "ما يمنع أحدكم إذا عَسُر عليه أمر معيشته أن يقول إذا خرج من بيته : "بسم الله على نفسي ومالي وديني، اللهم رضّني بقضائك، وبارك لي فيما قدّر لي حتى لا أحبّ تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت". رواه أبو نعيم.
      أرأيتم – عباد الله – حتى عندما تضطرب أحوال عيش الإنسان في هذه الحياة، وتبرُزُ له صعوبات، فما عليه إلا أن يتشبث بربه، فاعرفوا هذا – أيها المسلمون – وأديموا اللجوء إلى الله واتخذوا من الأدعية المأثورة إلى جانب الأخذ بالأسباب المشروعة خيرُ عونٍ لبلوغ الآمال بشرط أن تقترن بصالح الأعمال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين".  الأعراف: 55ـ56.
 نفعني الله وإياكم بالذكر الحكيم..
الخطبة الثانية
     الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. 
    أما بعد، أيها المسلمون: إن الإنسان مهما تاه أو ضلّ أو احتار فإنه في وقت الشدة لا يلجأ إلا لله، ولا يدعو إلا ربه، قال سبحانه: "أمّن يجيب المضطر إذا دعاه". ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يحب أن يسأل، روى الترمذي عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله، فإنه يحب أن يسأل". وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه". وعلى المسلم أن يدعو الله بما شاء فيما يراه خيرا، قال أنس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع".
إذا عرضت في زمـاني حاجـة       وقد أشكلت فيها علي المقاصد
وقفت بباب الله وقفـة ضـارع       وقلت إلهـي إنني إليك قاصــــــد
ولست تراني واقفا عند باب من  يقول فتاه: سيدي اليوم راقـــــد
   ولذا– أيها المسلمون– نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه صاحبه أبا أمامة-وقد وجده في المسجد في غير وقت الصلاة لغمّ وهمّ أصابه، -إلى طلب العون من الله، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة جالسا فيه، فقال: "يا أبا أمامة مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: ألا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همّك، وقضى عنك دينك؟ فقال بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصـبحت وإذا أمسيت: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك مـــن العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"، قال: فقلت ذلك. فاذهب الله همّي وقضي عني ديني".   رواه أبو داوود.
     فيا – أيها المسلم – ادع الله في صباحك ومسائك بهذه الدعوة المباركة التي علمك إياها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في شخص أبي أمامة. ولا تخش غما ولا تشك قلقا مادام قرينك هو ذكر الله. وتذكّر أنه:
إذا لـم يعنك الله فيمـا تـريـــــده         فلـيس لمخلوق إليه سبــــــيل
وإن هو لم يرشدك في كل مسلك ضللت ولو أن السماك دليل
  فاذكروا ربكم ـ أيها المسلمون ـ بالغدو والآصال قياما وقعودا وعلى جنوبكم. اذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا، فإن ذلك هو الحياة والصلاح، فبذكر الله تطمئن القلوب، وتنفرج الكروب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ".
   اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادك، واجعلنا ممن اختاروا هداهم على هواهم، ورضوا بشريعتك واطمأنّوا بها، وانشرحت بها صدورهم فلم يبغوا عنها حولا، ولم يرضوا بها بدلا. اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن ومن غلبة الدين وقهر الرجال، اللهم لا تجعلنا ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا فأصبح من الخاسرين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، وارفع عنا الغلاء والوباء وقنا الزلازل والمحن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم اجعل بلدنا آمنا رخاء مطمئنا وجميع بلاد المسلمين، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق