عيد مجيد وعهد جديد
الخطبة الأولى
الحمد لله معزِّ الإسلامِ بنصره، ومذلّ الشرك
بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي جعل العافية للمتقين
بفضله، وأظهر دينه على الدين كله. والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الله، وعلى
آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد: فلقد جاء الخطاب في قول الله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته
فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"، [يونس: 58] موجّها للنبي صلى الله عليه
وسلم وأمته من بعده أن يكون احتفاؤهم بفضل الله تعالى ورحمته عليهم، وهما القرآن
والإسلام وما يتبعهما من أمور الدين والعبادات..
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله
ورحمته: الإسلام والسنة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ
فيهما كان قلبه أشد فرحًا، حتى إن القلب ليرقص فرحًا ــ إذا باشر روح السنة ــ
أحزن ما يكون الناس، وهو ممتلئ أمنًا أخوف ما يكون الناس". (اجتماع الجيوش:
ص10).
أيها المباركون: وها الزمان دار دورته، وهلّ
علينا اليوم الذي يحمل في طياته أجمل ذكريات الجزائر، جزائر العزة، موطن المحبة،
والأرض التي تستقى منها الكرامة، ذكرى فرحة ترجمتها أغنية الراحل عبد الرحمن عزيز:
(يا محمد مبروك عليك * الجزائر رجعت ليك..).
إنها فرحة لم تكن تتمثّل في خروج المستعمر
الفرنسي من البلاد فقط، بل في عودة الجزائر المسلمة الأصيلة، وعودة القيم التي
استشهد من أجلها أحرار وحرائر الجزائر.. وإن من يقرأ خطبة الإمام البشير
الإبراهيمي رحمه الله تعالى، التي ألقاها في أول خطبة جمعة بمسجد كتشاوة بعد أن
تمت إعادته إلى وضعه الطبيعي من كنيسة إلى مسجد، وهو يوجه خطابه إلى مجموع
الحاضرين يدرك هذا، حيث قال رحمه الله في خطبته: "يا أتباع محمد عليه السلام،
هذا هو اليوم الأزهر الأنور، وهذا هو اليوم الأغر المحجل، وهذا هو اليوم المشهود
في تاريخكم الإسلامي بهذا الشمال، وهذا اليوم هو الغرة اللائحة في وجه ثورتكم
المباركة، وهذا هو التاج المتألق في مفرقها، والصحيفة المذهبة الحواشي والطرز من
كتابهاّ. ثم يقول: "وهذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم، بل هو وديعة
التاريخ في ذممكم، أضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين، واسترجعتموها اليوم
مشكورين غير مكفورين، وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلابا،
وأخذتموها منه غلابا، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد، وعاد التوحيد إليه
فالتقيتم جميعا على قدر".
.
أيها المسلمون: هذا اليوم إنما
جاء بعد استعمار واستدمار فرنسي دام أكثر من ثلاثة عشر عقداً (132 سنة)، حرصت فيها
فرنسا على تأسيس المدارس التي كان هدفها دمج الشباب الجزائري وتغذيته بالعقلية
الفرنسية وبالديانة النصرانية، بداية بتأسيس أول كنيسة جزائرية سنة 1838م وتعيين
الأسقف "أنطوان دوبوش" على رأسها، ثم مجيء الأسقف "لافيجري"
الذي تولّى عملية التبشير سنة 1867م حتى 1892م، وكان شديد الحماسة لهذا العمل الذي
وهب عمره له ووضع له خطة تكون ثمرتها تنصير جيل كامل من الشباب الجزائري.. ولكن كل
تلك المخططات والمؤامرات قد باءت بالفشل واصطدمت بصخرة العقيدة القوية الراسخة لدى
الشعب الجزائري الذي رفض سياسة التبشير، بل وازداد اصرارا على الصبر على دينه
وعقيدته الإسلامية، ويذكر التاريخ أنه من أجل القضاء على القرآن من نفوس شباب
الجزائر، قامت فرنسا بتجربة عملية، حيث انتقت عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن
الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهن الثقافة
الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماما.. مستعينة فى ذلك برجل
دين نصراني اسمه "لاكوست" الذي عمد على تنشئتهن على الأفكار والعادات
الفرنسية..
وبمناسبة مرور 100 عام على احتلال الجزائر
أرادت أن تثبت للعالم أن الجزائريين صاروا قابلين للإندماج في المجتمع الفرنسي،
وبعد أحد عشرة (11) عاما من الجهود هيأت لهن حفلة تخريج رائعة، دعي إليها الوزراء
والمفكرون والصحفيون، كما حضرها بعض ممثلي الإستعمار الأوروبي في البلدان العربية
لكي يأخذوا فكرة عن الجزائر الجديدة "الفرنسية"، ويطبقوها في البلدان
العربية الباقية. اجتمع الحضور في مسرح كبير، ورفع الستار، وكانت صاعقة مدوية
للفرنسيين بل لكل الحاضرين حين رأوا الفتيات الجزائريات يخرجن وهن يلبسن اللباس
الجزائري الأصيل (الحايك)!.. فثارت ثائرة الأعلام الفرنسي، وتساءل: ما ذا كانت
تصنع فرنسا في الجزائر طيلة قرن من الزمان؟! أجاب "لاكوست" وزير
المستعمرات الفرنسي: وما ذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟.
إنها صرخة تدل بما لا يدع أي
مجالا للشك على أن الإسلام ظل دائماً هو القلب النابض للثورة، وأن مفاهيمه
ومصطلحاته هي التي دفعت المواطنات والمواطنين إلى التضحية القصوى. ورحم الله
القائل:
شعب الجزآئرِ مُسْلِمٌ * وَإلىَ العُروبةِ يَنتَسِبْ
مَنْ قَال حَادَ عَنْ أصْلِهِ * أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كذبْ
أَوْ رَامَ إدمَاجا لَهُ * رَامَ المُحَال من الطَّلَبْ
فالقرآن أكبر من فرنسا، وسيظل أكبر من فرنسا
ومن على شاكلتها، لأنه على ركب الأمجاد يسير المخلصون من الأحفاد، وعلى رجع صدى
هذا العيد المجيد يسير المخلصون من أبناء الجزائر وبناتها اليوم مع عهد التجديد.
ورحم الله الشاعر الكبير البرناوي حين قال على لسانهم:
قد كنا أمس عمالقة في الحرب نذل أعادينا
وإنا اليوم عمالقة في السلم حماة مبادينا
أبطالا كنا لا نرضى غير الأمجاد تحيينا
نزهو بالماضي في ثقة والحاضر يعلو ماضينا
هذا، وستظل الجزائر محروسة بحول الله وقوته،
ثم بعزَمات رجالها وإيمان أهلها ـ رغم المؤامرات والدعوات المُغرِضة ـ بلد إسلام
وسلام وخيرٍ وإحسان، آمنة مطمئنة ساكنة مستقرة..
دامت بفضل الله إلى ما شاء الله، علقما في عين كل حسود، وإثمدا في كل عين كل
ودود، وسقى أرجاءها المشرقة وأغصانها المورقة شآبيب الإحسان ومهدها بالأمن
والإيمان، وحفظ أهلها وأمنها وعقيدتها من كيد الأعداء ودسائس المغرضين، وجعلها
آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين..
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه
وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه. وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه. وسلم تسليماً..
أما بعد، عباد الله: فإن هذا اليوم يذكرنا
بثورة عظيمة صنعت التاريخ، وبهرت العالم، وقهرت الجبابرة، وقصّرت آمال المستعمرين،
وقصمت ظهور المستدمرين، وغيرت مجرى الأحداث وأعطت لشعوب العالم دروسا عملية في
الجهاد والتضحية والثبات والإستشهاد.
إنها ثورة كان عدد المجاهدين الذين فجّروها
على المستوى الوطني يوم انطلقت شرارتها: 1200 مجاهد. وكلّ ما يملكون: 400 قطعة
سلاح وقنابل تقليدية معدودة، والكثير من التصميم والإصرار والعزيمة من دحر
المستعمر وتحرير كامل التراب الجزائري في ملحمة بطولية لا يزال صداها يتردد بعد
أكثر من سبعة عقود. وإنها مرجع الأحرار على درب الاستقلال، فمقاومة الفلسطينيين اليوم
في غزة وجهادهم ضد الكيان الصهيوني وجيشه المجرم، هو عنوان لنوفمبر آخر على
الطريقة الفلسطينية، سوف يكلل دون أدنى شك بالإنتصار ودحر قوى الشر، وتحقيق غاية
وبناء دولة فلسطينية تنعم بالاستقلال الكامل.
هذا، ولن تكتمل فرحة الجزائريين باستقلالهم
إلا بانتصارها وعودة المسجد الأقصى وجميع فلسطين إلى حضن الإسلام والمسلمين، وتلك
هي وصية الشهداء ومن بينهم الشهيد ديدوش مراد في رسالته والتي كان من ضمن ما
تناولته من وصايا "لا يكتمل استقلال الجزائر، إلا بتحرير فلسطين".
اللهم أدم على الجزائر أمنها ووحدتها
واستقرارها، واجعل لأهل غزة النصرة والعزة والغلبة والقوة والهيبة والتمكين،. وأتم
نصرنا بتحرير فلسطين، اللهم لا تخيب رجاءنا وأنت أرحم الراحمين.. اللهم ارحم
شهداءنا الأبرار، وأنزل على قبورهم سحائب غفرانك، واجعل درجاتهم في عليين، وبارِك
في الجزائر، أَرْضِها وسمائها، وأكثر خيرها في بَرِّها ومائِها، وأكرم حماتها
وحراسها وكن لهم وليا وحافظا ونصيرا، واحفظ اللهم أمنها وعقيدتها من كيد الأعداء
ودسائس المغرضين، واجعلها بلدا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم
الراحمين.. وصلى الله على سيدنا محمد وسلم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق