الحمد لله الدائم بره، النافذ أمره، الغالب قهره، الواجب حمده وشكره، وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والتدبير، جلَّ ذكره، وإليه يُرجع الأمر كله، علانيته وسره، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، الهادي البشير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحابته الأخيار، ما جن ليل وبزغ نهار، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون: هناك مواقف وسلوكيات
مختلفة في حياتنا اليومية تتحوّل بمرور الزمن إلى ثقافة، والمواقف والسلوكيات هما
بعدان لشخصية كل فرد، وصاحب المواقف الصحيحة يتحلّى بالسلوكيات الصحيحة أيضا.
فمثلا حين يتباطأ الشخص عن القيام بما يجب عليه في حينه، فهو عندئذ متواطئ برغبة
السلامة أو فطرة المكابرة، ولا قيمة حينئذ لما يقوم به بعد ذلك، وقديما قال
الشاعر:
إذا لم
يُغَبِّر حائطٌ في وقوعِه * فليس له بعد الوقوعِ غُبَارُ
.
وهذا هو أحد
المفاهيم التي ترسخت عند الصحابة، ففي البخاري ومسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه
وأرضاه أحد المخلفين في غزوة تبوك أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
علم بغيابه في الغزوة قال: ما فعل كعب؟، اطمئناناً منه صلى الله عليه وسلم على
أصحابه، فهو يسأل لماذا لم يأت كعب معنا؟ فقال رجل من بني سلمة -بكسر اللام- يا
رسول الله! حبسه برداه أي: حبسته ثيابه، ونظره في عطفيه يعني: في حسن وبهاء الثوب
الذي عليه، والمراد من ذلك: أن الدنيا قد شغلته عن القدوم إلى الغزوة. فرد عليه
معاذ بن جبل رضي الله عنه قائلاً: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه
إلا خيراً.
الشاهد هنا أن معاذاً رضي الله لم يتباطأ
ولم يتردّد، بل دافع عن أخيه كعب، وإن كان كعب متخلفاً عن أهم غزوة في حياة
المؤمنين، فمعاذ عذر أخاه حتى يعرف سبب تخلفه عن هذه الغزوة، هذه هي الأخوة
الحقيقية، وهذا هو المعنى الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم عن الأخوة.
هذا، وإن مما لا مرية فيه أن جميع المسلمين
في مشارق الأرض ومغاربها إخوة، لا تفصل بينهم حدود، ولا تفرّقهم جنسيات، والرابط
الأساس بين أفراد الأمة جمعاء الأخوة الإسلامية، وإن ما تواجهه اليوم أرض فلسطين
عامة وغزة بالخصوص جريمة إنسانية متكاملة الأركان والشروط، حيث تتعرض إلى مؤامرة
عالمية يشجعها ضعف وتخاذل النظام الرسمي العربي وتآمر أطراف عديدة منه، قال الإمام
الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله: "إن فلسطين وديعة محمد صلى الله
عليه وسلم عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها
اليهود منا ونحن عصبة، إنا إذا لخاسرون".
أيها المسلمون: إن نصرة فلسطين والفلسطينيين المظلومين والمستضعفين واجب أخلاقي وإنساني وشرعي، توجبه الظروف القاسية التي يمرون بها، من قصف متواصل؛ وتقتيل وتشريد العزل، وهدم بيوتهم وسلب أرضهم ومحاولة تهجيرهم، حيث لا يمكن وصف ذلك إلا بالإبادة الجماعية والعالم "المتحضر" كله يتفرج مع الأسف، بل يسارع إلى مدّ يد العون للمعتدي الغاصب. وإن تخلف المسلم عن نصرتهم مع القدرة على ذلك، وهو يرى بعينه إذلال أخيه ألبسه الله لباس ذل أمام الخلق يوم القيامة؛ لتقصيره في نصرة أخيه، ورفع الذل عنه. خرّج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف عن أبيه عن النبي قال: "من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره، و هو يقدر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة". وخرّج أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابر بن عبد الله، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من امرئ مسلم يخُذلُ امرأً مسلماً في موطن تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يُحبٌّ فيه نُصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موضع يحبُ فيه نُصرته".
ولئن صمتت الدول الغربية فليس ذلك بمستغرب لأنها داعمة للصهاينة في السر والعلن،
ولكن الصمت والخذلان العربي مؤلم لدرجة كبيرة، لأن المسلم أخو المسلم ويتطلب الأمر
نصرته خاصة وقت الشدائد والمحن، وإن المسؤولية أمام الله تتفاوت بحسب موقع
كل فرد ومكانته وتأثيره وعمله ووظيفته وخبرته وعلمه وعلاقاته؛ فكلما كانت
الإمكانات أكبر كانت المسؤولية أعظم، وكلما كانت المكانة والموقع أقوى كانت
المسؤولية أكبر.
أقول: وإنه لمن دواعي الفخر والإعتزاز ان
الشعب الجزائري لم يتوان أبدا من تقديم يد العون والإسناد للشعب الفلسطيني، وذلك
منذ تأسيس الهيئة العليا لإعانة فلسطين سنة 1948م، والجزائريون حينها لم يلملموا
بعد جراح مجازر الثامن من مايو 1945م، حيث عملت هذه الهيئة بقيادة جمعية علماء
المسلمين على جمع التبرعات لصالح فلسطين، يقول الشيخ الإبراهيمي أحد أبرز قادتها:
"… ثم شرعنا في العمل في خواتم رمضان المبارك، فاجتمع لدينا من هبات المحسنين
عدة ملايين من الفرنكات أبلغناها إلى مأمنها في فلسطين…"، ولا يزال إلى الآن غالبية
الجزائريين يعتبرون شعار"نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". الذي أطلقه
الرئيس الراحل هواري بومدين ممثّلا لهم. ويكفي أنه اعترف في شهر أكتوبر 2023م "عوفير
برونشتاين" المستشار السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين،
بأن "الجزائر هي الدولة العربية الوحيدة التي لم توقف مساعدتها المادية
الموجهة إلى فلسطين.."
وها هي الجزائر اليوم تضع باللون الأزرق مشروع
قرار طلب عضوية فلسطين بالأمم المتحدة بدعم من المجموعة العربية، وتأتي هذه الخطوة
عقب الجهود الحثيثة التي بذلها الجهاز الدبلوماسي الجزائري وفقا لتعليمات الرئيس
عبد المجيد تبون، التي أمر من خلالها بالعمل على حشد أكبر قدر ممكن من الدعم
لتمكين دولة فلسطين من الحصول على عضويتها الكاملة بهيئة الأمم المتحدة. وهي خطوة
سيجّلها التاريخ.. ولئن لم تكن الأولى للجزائريين، ولن تكون الأخيرة، وليست منّة
ولا تفاخرا، ولكنها تؤكد مرّة أخرى في أذهان الأجيال العربية بأن فلسطين عندهم فوق
كل اعتبار.
أيها المسلمون: - وبناء على قاعدة: "أن
لكل فعل ردّة فعل مساوية له في القوّة ومضادّة له في الإتجاه"، أقول لكل من
يسمع خطابي أو يقرأ كلامي-: كن معاذا في مثل موقفه، ولا تخذل أخاك الفلسطيني.. ففي
الخذلان لا توجد فرصه ثانية، وليس كل المواقف تستطيع فيها التبرير والإعتذار، ولعل
هذا السبب الذي جعل برنارد شو يعتذر عن قبول جائزة نوبل بعد أن بلغ ذروة الشيخوخة.
وما أدراك ما قيمة جائزة نوبل عند أهلها.
وعلى الجميع العودة إلى الماضي (var)،
لتحرير العقول من رغبة السلامة وفطرة المكابرة، للمضي قدماً في رحلة الوعي الخالص
دون تلويث أو توجيه مغلوط للمسار قبل فات الأوان. وهذه نفثة حرَّى من محب، ولعل
الإشارة بها تصيب مرماها أو قريب ممّن يبلّغها منتهاها.. وإلا سنكتفي بأن نقول
بأنها رمية كحجر المقلاع ليس لها اتجاه محدّد..
اللهم إنا نسألك بذلِّ عبوديتنا لك، وبعظيم افتقارنا لك، أن تنتصر لعبادك
المؤمنين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.. اللهم أَنْجِ المستضعفين من المؤمنين،
اللهم أَنْجِ المستضعفين من المؤمنين، وجنّبنا ومن نحب ما قد يخلّفه وجعٌ خُصّبَ
بنطفة من خِذلان، فبك نستعين ولا حول ولا قوة إلا بك..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق