16 يناير 2025

دعوا التحليلات لأهلها واستمتعوا بنصر غزة.


الموضوع: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الغر المحجلين .. وبعد:

      ففي علوم الحرب وصراع القوى، يُمْكِن للخبراء العسكريين والقادة السياسيين أن يتنبأوا بنتائج المعارك مسبقاً، وغالباً ما تصيب توقعاتهم وتوافق حساباتهم، ولا سيما مع التطور الهائل الذي تشهده التقنية الحديثة على مختلف الأصعدة وفي جميع المجالات، حيث يمكن إدخال أرقام وقياسات كِلَا طرَفَي معركةٍ ما لجهاز حاسوب، فيعطيك نتيجة فورية مفصلة بنتائجها قبل نشوبها، ولكن هذه التقنية الباهرة، تقف عاجزة كل العجز أمام إخضاع أسبابنا الخاصة كمؤمنين لحساباتهم كبشر، فحينما يكون أحد المعسكرين المتحاربين معسكر الإيمان تفشل الحسابات، بل تكون حساباتها تلك من باب العبث والدجل، لأنها تتأسّس - حينئذ - على مقدمات خاطئة أو ناقصة، لم يَحُط بها استقصاءٌ كلّي جامع.

   إن للنصر أسبابا ربانية لا تُمنح لجنس تفضيلاً له على آخر، وإنما يختص بها أهل الإيمان أينما كانوا، وأياً كان جنسهم أو لونهم، وذلك بمقتضى ميزان العدل الإلهي، الذي لا اعتبار فيه لمعايير البشر العنصرية والمادية، والتي لا تتحيز لفريق دون آخر لمجرد الهوى، أو لحمية الجاهلية، أو للإلتقاء المصالح النفعية، فالإعتبار الوحيد في ميزان الله، هو كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.محمد: 7 .

    فالنصر لفظ من الألفاظ العَقَدية في الدين الإسلامي، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم ما يزيد عن مائة وثلاثين مرة. وهو مُسْنَد ومنسوب إلى الله العليّ القدير، فالنصر من عند الله، كما قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}, [آل عمران:126] .

    وللأسف.. لقد أغرقتنا التحليلات السياسية والعسكرية، من قبل المحللين العرب أو الغرب، فدعوا التحليلات لأهلها واستمتعوا بنصر غزة، بل بنصر فلسطين، بل بنصر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. فالمسلمون يُنصَرون بمددٍ من الله وتأييده، وذلك حينما يَنصُرون الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، كما في قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ}[160]. وكما في قول رب العالمين في سورة الحج: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، [40]. فمهما تكن نتائج الحرب في غزة، فإن أهل غزة سينتصرون، صحيح موازين القوى مختلّة تماما، غزة تواجه تحالفا دوليا غير مسبوق، فالحرب غير متكافئة عتادا وعدة وعددا لكن نتائج المعركة حتى الآن في صالح المقاومة والدليل على ذلك حالة الهياج والقتل غير المبرر للمدنيين لتحقيق أي نصر زائف يشفي صدور الإسرائيليين ويخفف من صدمة شعب دولة الاحتلال ويعيد الثقة إليهم وتوازنهم بعد الصاعقة التي ألمت بهم منذ 7 أكتوبر الماضي...

    ولكن بصمود وعزيمة أهل غزة، وصلابة معركتهم ومشروعية قضيتهم يتوفر لدينا يقينٌ بأنهم أهل للنصر رغم فظاعة وبشاعة القصف والدمار الهائل. فبإذن الله سيدوّن أهل غزة لكل الأمم والأجيال قصصاً من النصر والحرية والإقدام.. وسيخرج الصهاينة من فلسطين صاغرين ومنهزمين، لقد وعدنا المولى- عز وجل- في كتابه العزيز بهذا عند ما قال سبحانه "ولينصرن الله من ينصره"، وستكون كلمة الله هي العليا والنصر لعباده المجاهدين في سبيله.. وإن كانت تكلفتها الدموية باهظة، لكنها تمثل مشهدا يكتمل في متاهة البحث عن طريق القدس التي تدل عليها أبوابها الأربعة عشر وسورها ومسجدها والمرابطون فيه، لمن تاه عن الطريق ويقول: يا قدس إنا قادمون.

   أسأل الله عز وجل أن يرينا آثار هذا الفتح والنصر عاجلاً غير آجل، اللهم فك حصارهم، وآمنهم في ديارهم، وارحم موتاهم، واشف مرضاهم، واجبر كسرهم، وسدّ خلتهم، واجبر مصابهم، وانتصر لهم ممن ظلمهم.. يا راحم المساكين ويا ناصر المستضعفين اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على النبي والنذير البشير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

04 يوليو 2024

الموضوع: الذكرى 62 لعيد الإستقلال 1962 2024

عيد مجيد وعهد جديد

الخطبة الأولى

   الحمد لله معزِّ الإسلامِ بنصره، ومذلّ الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي جعل العافية للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كله. والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.

أما بعد: فلقد جاء الخطاب في قول الله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"، [يونس: 58] موجّها للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده أن يكون احتفاؤهم بفضل الله تعالى ورحمته عليهم، وهما القرآن والإسلام وما يتبعهما من أمور الدين والعبادات..

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد ‌دارت ‌أقوال ‌السلف ‌على ‌أن ‌فضل ‌الله ورحمته: الإسلام والسنة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قلبه أشد فرحًا، حتى إن القلب ليرقص فرحًا ــ إذا باشر روح السنة ــ أحزن ما يكون الناس، وهو ممتلئ أمنًا أخوف ما يكون الناس". (اجتماع الجيوش: ص10).

 أيها المباركون: وها الزمان دار دورته، وهلّ علينا اليوم الذي يحمل في طياته أجمل ذكريات الجزائر، جزائر العزة، موطن المحبة، والأرض التي تستقى منها الكرامة، ذكرى فرحة ترجمتها أغنية الراحل عبد الرحمن عزيز: (يا محمد مبروك عليك * الجزائر رجعت ليك..).

   إنها فرحة لم تكن تتمثّل في خروج المستعمر الفرنسي من البلاد فقط، بل في عودة الجزائر المسلمة الأصيلة، وعودة القيم التي استشهد من أجلها أحرار وحرائر الجزائر.. وإن من يقرأ خطبة الإمام البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى، التي ألقاها في أول خطبة جمعة بمسجد كتشاوة بعد أن تمت إعادته إلى وضعه الطبيعي من كنيسة إلى مسجد، وهو يوجه خطابه إلى مجموع الحاضرين يدرك هذا، حيث قال رحمه الله في خطبته: "يا أتباع محمد عليه السلام، هذا هو اليوم الأزهر الأنور، وهذا هو اليوم الأغر المحجل، وهذا هو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي بهذا الشمال، وهذا اليوم هو الغرة اللائحة في وجه ثورتكم المباركة، وهذا هو التاج المتألق في مفرقها، والصحيفة المذهبة الحواشي والطرز من كتابهاّ. ثم يقول: "وهذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم، بل هو وديعة التاريخ في ذممكم، أضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين، واسترجعتموها اليوم مشكورين غير مكفورين، وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلابا، وأخذتموها منه غلابا، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد، وعاد التوحيد إليه فالتقيتم جميعا على قدر". .

   أيها المسلمون: هذا اليوم إنما جاء بعد استعمار واستدمار فرنسي دام أكثر من ثلاثة عشر عقداً (132 سنة)، حرصت فيها فرنسا على تأسيس المدارس التي كان هدفها دمج الشباب الجزائري وتغذيته بالعقلية الفرنسية وبالديانة النصرانية، بداية بتأسيس أول كنيسة جزائرية سنة 1838م وتعيين الأسقف "أنطوان دوبوش" على رأسها، ثم مجيء الأسقف "لافيجري" الذي تولّى عملية التبشير سنة 1867م حتى 1892م، وكان شديد الحماسة لهذا العمل الذي وهب عمره له ووضع له خطة تكون ثمرتها تنصير جيل كامل من الشباب الجزائري.. ولكن كل تلك المخططات والمؤامرات قد باءت بالفشل واصطدمت بصخرة العقيدة القوية الراسخة لدى الشعب الجزائري الذي رفض سياسة التبشير، بل وازداد اصرارا على الصبر على دينه وعقيدته الإسلامية، ويذكر التاريخ أنه من أجل القضاء على القرآن من نفوس شباب الجزائر، قامت فرنسا بتجربة عملية، حيث انتقت عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماما.. مستعينة فى ذلك برجل دين نصراني اسمه "لاكوست" الذي عمد على تنشئتهن على الأفكار والعادات الفرنسية..

  وبمناسبة مرور 100 عام على احتلال الجزائر أرادت أن تثبت للعالم أن الجزائريين صاروا قابلين للإندماج في المجتمع الفرنسي، وبعد أحد عشرة (11) عاما من الجهود هيأت لهن حفلة تخريج رائعة، دعي إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون، كما حضرها بعض ممثلي الإستعمار الأوروبي في البلدان العربية لكي يأخذوا فكرة عن الجزائر الجديدة "الفرنسية"، ويطبقوها في البلدان العربية الباقية. اجتمع الحضور في مسرح كبير، ورفع الستار، وكانت صاعقة مدوية للفرنسيين بل لكل الحاضرين حين رأوا الفتيات الجزائريات يخرجن وهن يلبسن اللباس الجزائري الأصيل (الحايك)!.. فثارت ثائرة الأعلام الفرنسي، وتساءل: ما ذا كانت تصنع فرنسا في الجزائر طيلة قرن من الزمان؟! أجاب "لاكوست" وزير المستعمرات الفرنسي: وما ذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟.

 إنها صرخة تدل بما لا يدع أي مجالا للشك على أن الإسلام ظل دائماً هو القلب النابض للثورة، وأن مفاهيمه ومصطلحاته هي التي دفعت المواطنات والمواطنين إلى التضحية القصوى. ورحم الله القائل:

شعب الجزآئرِ مُسْلِمٌ * وَإلىَ العُروبةِ يَنتَسِبْ

مَنْ قَال حَادَ عَنْ أصْلِهِ * أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كذبْ

أَوْ رَامَ إدمَاجا لَهُ * رَامَ المُحَال من الطَّلَبْ

  فالقرآن أكبر من فرنسا، وسيظل أكبر من فرنسا ومن على شاكلتها، لأنه على ركب الأمجاد يسير المخلصون من الأحفاد، وعلى رجع صدى هذا العيد المجيد يسير المخلصون من أبناء الجزائر وبناتها اليوم مع عهد التجديد. ورحم الله الشاعر الكبير البرناوي حين قال على لسانهم:

قد كنا أمس عمالقة في الحرب نذل أعادينا

وإنا اليوم عمالقة في السلم حماة مبادينا

أبطالا كنا لا نرضى غير الأمجاد تحيينا

نزهو بالماضي في ثقة والحاضر يعلو ماضينا

   هذا، وستظل الجزائر محروسة بحول الله وقوته، ثم بعزَمات رجالها وإيمان أهلها ـ رغم المؤامرات والدعوات المُغرِضة ـ بلد إسلام وسلام وخيرٍ وإحسان، آمنة مطمئنة ساكنة مستقرة..

دامت بفضل الله إلى ما شاء الله، علقما في عين كل حسود، وإثمدا في كل عين كل ودود، وسقى أرجاءها المشرقة وأغصانها المورقة شآبيب الإحسان ومهدها بالأمن والإيمان، وحفظ أهلها وأمنها وعقيدتها من كيد الأعداء ودسائس المغرضين، وجعلها آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين..

الخطبة الثانية

   الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه. وسلم تسليماً..

  أما بعد، عباد الله: فإن هذا اليوم يذكرنا بثورة عظيمة صنعت التاريخ، وبهرت العالم، وقهرت الجبابرة، وقصّرت آمال المستعمرين، وقصمت ظهور المستدمرين، وغيرت مجرى الأحداث وأعطت لشعوب العالم دروسا عملية في الجهاد والتضحية والثبات والإستشهاد.

    إنها ثورة كان عدد المجاهدين الذين فجّروها على المستوى الوطني يوم انطلقت شرارتها: 1200 مجاهد. وكلّ ما يملكون: 400 قطعة سلاح وقنابل تقليدية معدودة، والكثير من التصميم والإصرار والعزيمة من دحر المستعمر وتحرير كامل التراب الجزائري في ملحمة بطولية لا يزال صداها يتردد بعد أكثر من سبعة عقود. وإنها مرجع الأحرار على درب الاستقلال، فمقاومة الفلسطينيين اليوم في غزة وجهادهم ضد الكيان الصهيوني وجيشه المجرم، هو عنوان لنوفمبر آخر على الطريقة الفلسطينية، سوف يكلل دون أدنى شك بالإنتصار ودحر قوى الشر، وتحقيق غاية وبناء دولة فلسطينية تنعم بالاستقلال الكامل.

   هذا، ولن تكتمل فرحة الجزائريين باستقلالهم إلا بانتصارها وعودة المسجد الأقصى وجميع فلسطين إلى حضن الإسلام والمسلمين، وتلك هي وصية الشهداء ومن بينهم الشهيد ديدوش مراد في رسالته والتي كان من ضمن ما تناولته من وصايا "لا يكتمل استقلال الجزائر، إلا بتحرير فلسطين".

  اللهم أدم على الجزائر أمنها ووحدتها واستقرارها، واجعل لأهل غزة النصرة والعزة والغلبة والقوة والهيبة والتمكين،. وأتم نصرنا بتحرير فلسطين، اللهم لا تخيب رجاءنا وأنت أرحم الراحمين.. اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، وأنزل على قبورهم سحائب غفرانك، واجعل درجاتهم في عليين، وبارِك في الجزائر، أَرْضِها وسمائها، وأكثر خيرها في بَرِّها ومائِها، وأكرم حماتها وحراسها وكن لهم وليا وحافظا ونصيرا، واحفظ اللهم أمنها وعقيدتها من كيد الأعداء ودسائس المغرضين، واجعلها بلدا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.. وصلى الله على سيدنا محمد وسلم..

18 أبريل 2024

الموضوع: كن (معاذًا) في مثل موقفه، ولا تخذل أخاك.. الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة

       الحمد لله الدائم بره، النافذ أمره، الغالب قهره، الواجب حمده وشكره، وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والتدبير، جلَّ ذكره، وإليه يُرجع الأمر كله، علانيته وسره، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، الهادي البشير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحابته الأخيار، ما جن ليل وبزغ نهار، وسلَّم تسليماً كثيراً.

    أيها المسلمون: هناك مواقف وسلوكيات مختلفة في حياتنا اليومية تتحوّل بمرور الزمن إلى ثقافة، والمواقف والسلوكيات هما بعدان لشخصية كل فرد، وصاحب المواقف الصحيحة يتحلّى بالسلوكيات الصحيحة أيضا. فمثلا حين يتباطأ الشخص عن القيام بما يجب عليه في حينه، فهو عندئذ متواطئ برغبة السلامة أو فطرة المكابرة، ولا قيمة حينئذ لما يقوم به بعد ذلك، وقديما قال الشاعر:

                              إذا لم يُغَبِّر حائطٌ في وقوعِه * فليس له بعد الوقوعِ غُبَارُ .

  وهذا هو أحد المفاهيم التي ترسخت عند الصحابة، ففي البخاري ومسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أحد المخلفين في غزوة تبوك أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علم بغيابه في الغزوة قال: ما فعل كعب؟، اطمئناناً منه صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فهو يسأل لماذا لم يأت كعب معنا؟ فقال رجل من بني سلمة -بكسر اللام- يا رسول الله! حبسه برداه أي: حبسته ثيابه، ونظره في عطفيه يعني: في حسن وبهاء الثوب الذي عليه، والمراد من ذلك: أن الدنيا قد شغلته عن القدوم إلى الغزوة. فرد عليه معاذ بن جبل رضي الله عنه قائلاً: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً.

     الشاهد هنا أن معاذاً رضي الله لم يتباطأ ولم يتردّد، بل دافع عن أخيه كعب، وإن كان كعب متخلفاً عن أهم غزوة في حياة المؤمنين، فمعاذ عذر أخاه حتى يعرف سبب تخلفه عن هذه الغزوة، هذه هي الأخوة الحقيقية، وهذا هو المعنى الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم عن الأخوة.

    هذا، وإن مما لا مرية فيه أن جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إخوة، لا تفصل بينهم حدود، ولا تفرّقهم جنسيات، والرابط الأساس بين أفراد الأمة جمعاء الأخوة الإسلامية، وإن ما تواجهه اليوم أرض فلسطين عامة وغزة بالخصوص جريمة إنسانية متكاملة الأركان والشروط، حيث تتعرض إلى مؤامرة عالمية يشجعها ضعف وتخاذل النظام الرسمي العربي وتآمر أطراف عديدة منه، قال الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله: "إن فلسطين وديعة محمد صلى الله عليه وسلم عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة، إنا إذا لخاسرون".

     أيها المسلمون: إن نصرة فلسطين والفلسطينيين المظلومين والمستضعفين واجب أخلاقي وإنساني وشرعي، توجبه الظروف القاسية التي يمرون بها، من قصف متواصل؛ وتقتيل وتشريد العزل، وهدم بيوتهم وسلب أرضهم ومحاولة تهجيرهم، حيث لا يمكن وصف ذلك إلا بالإبادة الجماعية والعالم "المتحضر" كله يتفرج مع الأسف، بل يسارع إلى مدّ يد العون للمعتدي الغاصب. وإن تخلف المسلم عن نصرتهم مع القدرة على ذلك، وهو يرى بعينه إذلال أخيه ألبسه الله لباس ذل أمام الخلق يوم القيامة؛ لتقصيره في نصرة أخيه، ورفع الذل عنه. خرّج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف عن أبيه عن النبي قال: "من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره، و هو يقدر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة". وخرّج أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابر بن عبد الله، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من امرئ مسلم يخُذلُ امرأً مسلماً في موطن تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يُحبٌّ فيه نُصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موضع يحبُ فيه نُصرته".

   ولئن صمتت الدول الغربية فليس ذلك بمستغرب لأنها داعمة للصهاينة في السر والعلن، ولكن الصمت والخذلان العربي مؤلم لدرجة كبيرة، لأن المسلم أخو المسلم ويتطلب الأمر نصرته خاصة وقت الشدائد والمحن،  وإن المسؤولية أمام الله تتفاوت بحسب موقع كل فرد ومكانته وتأثيره وعمله ووظيفته وخبرته وعلمه وعلاقاته؛ فكلما كانت الإمكانات أكبر كانت المسؤولية أعظم، وكلما كانت المكانة والموقع أقوى كانت المسؤولية أكبر.

    أقول: وإنه لمن دواعي الفخر والإعتزاز ان الشعب الجزائري لم يتوان أبدا من تقديم يد العون والإسناد للشعب الفلسطيني، وذلك منذ تأسيس الهيئة العليا لإعانة فلسطين سنة 1948م، والجزائريون حينها لم يلملموا بعد جراح مجازر الثامن من مايو 1945م، حيث عملت هذه الهيئة بقيادة جمعية علماء المسلمين على جمع التبرعات لصالح فلسطين، يقول الشيخ الإبراهيمي أحد أبرز قادتها: "… ثم شرعنا في العمل في خواتم رمضان المبارك، فاجتمع لدينا من هبات المحسنين عدة ملايين من الفرنكات أبلغناها إلى مأمنها في فلسطين…"، ولا يزال إلى الآن غالبية الجزائريين يعتبرون شعار"نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". الذي أطلقه الرئيس الراحل هواري بومدين ممثّلا لهم. ويكفي أنه اعترف في شهر أكتوبر 2023م "عوفير برونشتاين" المستشار السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين، بأن "الجزائر هي الدولة العربية الوحيدة التي لم توقف مساعدتها المادية الموجهة إلى فلسطين.."

   وها هي الجزائر اليوم تضع باللون الأزرق مشروع قرار طلب عضوية فلسطين بالأمم المتحدة بدعم من المجموعة العربية، وتأتي هذه الخطوة عقب الجهود الحثيثة التي بذلها الجهاز الدبلوماسي الجزائري وفقا لتعليمات الرئيس عبد المجيد تبون، التي أمر من خلالها بالعمل على حشد أكبر قدر ممكن من الدعم لتمكين دولة فلسطين من الحصول على عضويتها الكاملة بهيئة الأمم المتحدة. وهي خطوة سيجّلها التاريخ.. ولئن لم تكن الأولى للجزائريين، ولن تكون الأخيرة، وليست منّة ولا تفاخرا، ولكنها تؤكد مرّة أخرى في أذهان الأجيال العربية بأن فلسطين عندهم فوق كل اعتبار.

   أيها المسلمون: - وبناء على قاعدة: "أن لكل فعل ردّة فعل مساوية له في القوّة ومضادّة له في الإتجاه"، أقول لكل من يسمع خطابي أو يقرأ كلامي-: كن معاذا في مثل موقفه، ولا تخذل أخاك الفلسطيني.. ففي الخذلان لا توجد فرصه ثانية، وليس كل المواقف تستطيع فيها التبرير والإعتذار، ولعل هذا السبب الذي جعل برنارد شو يعتذر عن قبول جائزة نوبل بعد أن بلغ ذروة الشيخوخة. وما أدراك ما قيمة جائزة نوبل عند أهلها.

    وعلى الجميع العودة إلى الماضي (var)، لتحرير العقول من رغبة السلامة وفطرة المكابرة، للمضي قدماً في رحلة الوعي الخالص دون تلويث أو توجيه مغلوط للمسار قبل فات الأوان. وهذه نفثة حرَّى من محب، ولعل الإشارة بها تصيب مرماها أو قريب ممّن يبلّغها منتهاها.. وإلا سنكتفي بأن نقول بأنها رمية كحجر المقلاع ليس لها اتجاه محدّد..

اللهم إنا نسألك بذلِّ عبوديتنا لك، وبعظيم افتقارنا لك، أن تنتصر لعبادك المؤمنين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.. اللهم أَنْجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم أَنْجِ المستضعفين من المؤمنين، وجنّبنا ومن نحب ما قد يخلّفه وجعٌ خُصّبَ بنطفة من خِذلان، فبك نستعين ولا حول ولا قوة إلا بك..

07 أبريل 2024

الموضوع : عيد الفطر ـ بأية حال عدت يا عيد

       الله أكبر (7)..  .. الله أكبر عدد ما صام صائم وأفطر، الله أكبر ولله الحمد. سهَّل للعباد طريق العبادة ويسر. وأفاض عليهم من خزائن جوده التي لا تحصر. أحمده سبحانه على نعمه، وأشكره وهو المستحق لأنْ يُحْمدَ ويشكر.

    وأشهد أن لا إله الا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمد بن عبد الله، نبي الله المصطفى ورسوله المجتبى. صلوات ربي وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وما تعاقب الليل والنهار، وعلى صحبه الأخيار وأتباعه الأطهار..

      أما بعد أيها المسلمون: فاليوم يوم الفرح والسعادة والحبور، اليوم يوم الجوائز والمنائح للعابدين، اليوم تاج على رأس الصيام لا يجمُل ولا يحلَى إلا به. اليوم ضيافة الرحمن وفضله ورحمته. قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ يونس: 58.

      وإن من رحمته ـ يا عباد الله ـ أن أبقاكم حتى صمتم رمضان. وإن من رحمته أن قمتم وقرأتم وصليتم. فمن وفقه الله لرحمته وأخذ منها بنصيب، فهذا هو الفرح الذي لا يعدله شيء ولو جمعت للمرء الدنيا بحذافيرها.

فهنيئًا لكم هذا اليومُ البهيج، هنيئًا لكم هذا اليومُ المجيد، هنيئًا لكم يومُ العيد، ويومُ الأفراحِ والمسارّ، والبهجة والأنوار، جعله الله مقرونا بالقَبول، ودَركِ البغيةِ ونُجح المأمول. فلك الحمد -يا ربي- على إكمال عدّة الصيامِ، ولك الحمد -يا ربي- على إدراك رمضان حتى التمام، وحضوره حتى الختام، جعلنا الله ممن أُعتق فيه من النار، وأُنزل منازل الصادقين الأبرار.   الله أكبر.. ألله أكبر.. الله أكبر..

   أيها المسلمون: لكم أن تفرحوا بطاعة ربكم وامتثالكم لأمره، "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون". وليكن رائدكم في هذ السلوك البهيج هو النبي الذي أرشد أمته إلى طرائق البهجة والسرور، وكان يحرص على أن يكون هو ومن حوله أشدَّ الناس فرحا بالأعياد، حتى لكأن المسلمين في أيام أعيادهم لا يشغلهم سوى المفاكهة والحياة السعيدة، والحقُّ أن مبعث ذلك هو التوازن بين الروح والمادة، والمرح والجِدّ الذي أسسته له قيم الإسلام، وقامت عليه دعائم العمران والاجتماع الإسلامي!.

إن العيد في الإسلام غبطة في الدين والطاعة، بهجة في الدنيا والحياة، ومظهر القوة والإخاء، إنه فرحة بإنتصار الإرادة الخيّرة علي الأهواء والشهوات، إن العيد مناسبة لإطلاق الأيدي الخيرة في مجال الخير، وهي مناسبة لتجديد أواصر الرحم في الأقرباء، والود من الأصدقاء، تتقارب القلوب علي المحبة، وتتجمع علي الألفة، وترتفع عن الضغائن. الله أكبر.. ألله أكبر.. الله أكبر..

       فيا من صمتم وقمتم، وخشعتم ودعوتم. الصيام مدرسة ربانية أخذتم فيها دورة تدريبة علي الطاعة والانقياد إليه، تركتم الحلال الطعام والشراب والشهوة، أفلم تتهيأ نفوسكم لترك الحرام في رمضان وفي غير رمضان؟!. فاجعلو كل شهوركم رمضان، وكل أيامكم أعيادا بطاعة الرحمن، فلقد كان سلفنا الصالح – رضي الله عنهم – يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ويخافون من ردّه وإبطاله، قال فضالة بن عبيد رحمه الله: لأن أعلم، أن الله تقبل مني مثقال حبة من خردل، أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأن الله تعالى يقول: "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ". تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وبلَّغنا جميعاً جزيل المواهب وخير الآمال. الله أكبر.. ألله أكبر.. الله أكبر..

     أيها المسلمون: لئن كان من حق العيد علينا أن نباهج به ونفرح، وكان من حقنا أن نتبادل به التهاني ونطرح الهموم، فواجبا علينا من هنا أن نلتفت بحزن وأسى إلى غزة هاشم، التي تحمّلت وتتحمل ذلكم الكمّ الهائل من التضحيات، ودفعت الشهداء من الشيوخ والنساء والأطفال وخيرة الرجال والشباب ثمناً لصمودها ومقاومتها للعدوان السافر على أرضها.. ولذا فحقيقة عيدنا هذا العام مختلف، فيه من الفرح ما فيه، وفيه من الحزن ما فيه. فيه الفرح بإكمال الشهر مستشعرين قول الله تعالى «ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون». البقرة 185. وأسأل الله أن يكون خَتم ربنا لي ولكم شهرنا هذا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل متقبل مبرور.  

ففي هذا العيد يتردّد على مسامعنا قول شاعرنا المتنبي:

عيد بأية حال عدت يا عيد * بما مضى أم بأمر فيك تجديد

   حيث يخاطب المتنبي العيد متسائلا عن الحالة التي عاد فيها، ويستفهم إن كان هذا العيد قد جاء بأمر جديد مختلف عما مضى وسبق، أم أنه جاء بالهموم والمتاعب التي اعتاد عليها المتنبي من قبل.

أما الأحبة فالبيداء دونهم * فليت دونك بيدا دونها بيد

   وهنا يتأسف المتنبي على بعد أحبته عنه، نعم بعد الأحبة وفقدهم محزن ومؤلم، ولكن يا أبا الطيب إن مع البعد قتل واجتياح وتدمير تقوم به قوات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، وإنها لترخي على عيدنا ظلالا قاتمة تنزع من قلوب المسلمين الفرح، وتنكأ لديهم جراحا غائرة .فلا شيء حاضر في العيد إلا صورة الحزن الذي يسكننا، ويسكن حياة الكثير من الأسر الغزاوية في هذا العيد، العيد الذي انتهى معه الصيام عن الطعام والشراب، دون أن ينتهي الصيام عن فرحة صادرها الاحتلال من الفلسطينيين في حلهم وترحالهم.. والله المستعان. الله أكبر.. ألله أكبر.. الله أكبر..

     أيها المسلمون: وبما أن الفرح والحزن من الأحوال التي يصاب بها جميع الناس، والمسلم يجمع بين الفرح بما يفرحه من طاعة الله، أو حصول خير له، ويحزن لما يصيبه أو أمته من أذى وأسى، قال ابن الجوزي في التذكرة في الوعظ (ص: 31): "طوبى لعبد إذا أحسن إليه ربه حمد وشكر، وإذا أساء إلى نفسه تاب واستغفر، كلما قضى عليه بمعصية اغتم وحزن، وكلما وفق لطاعة فرح واستبشر".

     ولذا لا بد أن نطُوفَ ببحر التهاني على شاطئ الأمل، رغم الظروف التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي من شهداء وأسرى وجرحى، قَبْلَ وطول شهر رمضان المبارك من هجمات مسعورة على غزة والقدس الشريف والمدن الفلسطينية، وإنه الوفاءُ لأولئك الأبطال الذين ضحّوا بأرواحهم أو بصحتهم أو بحريتهم من أجل فلسطين، ومن أجل شعب فلسطين، بل ودفاعا عن كرامة الأمة، ودفاعا عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها الواعد.. ورغم الجراح والآلام نفرح، وهذا الفرح مقدّمة للفرح الأكبر بتحرير فلسطين والأقصى وعودة الشعب الفلسطيني لوطنه. وعُمر الأمة أطول من أعمار كل المحن والظالمين، وأنتم تعرفون أن مَن حوصروا في الخندق هم من فتحوا مكة..

لئن عرف التاريخ أوسا وخزرجا * فلله أوسٌ قادمون وخزرجُ

وإن كنوز الغيب لتخفي طلائعا * صابرة رغم المكائد تخرج

   وعليه فإننا نتضرع إلى الله العلي القدير أن يعيد هذه المناسبة علينا وعلى أبناء شعب فلسطين وقد تحققت أمانينا وأمانيه في الحرية والاستقلال وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.. هذا أملنا، وإن يكن عزيزا فما هو على الله بعزيز. الله أكبر.. ألله أكبر.. الله أكبر..

    بارك الله لهم وللمسلمين أجمعين في عيدهم، ومكَّن لهم دينهم الذي ارتضَى لهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

26 أكتوبر 2022

الموضوع: ثورة نوفمبر الخالدة تعطر أجواء القمة العربية الواعدة

    الحمد لله، يا ربنا لك الحمد، فبنعمائك تمت الصالحات، صلّ وسلّم وبارك على أكمل المخلوقات، وبعد:

    فإن الجزائر تحيي بحر هذا الأسبوع بكل انتشاء واعتزاز الذكرى الثامنة والستين لاندلاع ثورة أول نوفمبر 1954 المجيدة، وإن هذا اليوم ليس كباقي الأيام، إنه يوم يزهو فيه الجزائريون بوطنهم، ويحتفلون فيه باستقلالهم، ويباهون به أهل الدنيا. يذكرون أبطالهم الأوفياء الذين قامت الجزائر على أكتافهم، ونهضت بهمتهم، وعلت بعزيمتهم، ويترحمون على من قضى نحبه من شهدائهم، ويدعون الله بالعمر المديد والصحة والعافية لمن ما زال على العهد ثابتا.

    إن هذا اليوم يذكرنا بثورة عظيمة، صنعت التاريخ، وبهرت العالم، وقهرت الجبابرة، وقصّرت آمال المستعمرين، وقصمت ظهور المستدمرين، وغيرت مجرى الأحداث وأعطت لشعوب العالم دروسا عملية في الجهاد والتضحية والثبات والإستشهاد.

   إنها ثورة الفاتح من نوفمبر 1954م، يوم الإثنين الخامس من ربيع الأول 1374 هـ.. كان عدد المجاهدين الذين فجّروها على المستوى الوطني يوم انطلقت شرارتها: 1200 مجاهد. وكلّ ما يملكون: 400 قطعة سلاح وقنابل تقليدية معدودة، وكان الله معهم وكان إيمانهم به عظيما، وكان صبرهم جميلا، فصدقهم الله وعده: "قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".

   أيها المباركون: وإذا كان هناك تاريخ يُسجَّل لأفراد أو جماعات، فإن الثورة الجزائرية بعيدة عن هذا النهج، لأنها لم تكن ثورة أفراد، وإنما كانت ثورة شعب تقوده طليعة مؤمنة امتهنت المقاومة والكفاح، فسجّلت صفحات خالدة من البطولات والأمجاد.  

     هؤلاء الأبطال كما يذكر الشاعر صالح خرفي في قصيدته: "الجزائر ومولد الرسول" التي يخلْص فيها إلى التأكيد أنّ ثوار الجزائر ما هم إلاّ امتداد طبيعي لمجاهدي الأمة الإسلامية، ثاروا من أجل إحياء الإسلام، وإعادة أيامه الحافلة بالأمجاد والبطولات، حتى تخالهم عين الناظر إليهم، أنّهم جزء لا يتجزّء من مجاهدي أحد وبدر، فهو يقول:

ففي أرض الجزائر خير جند * يقيم لغابر الإسلام ذكرى
كأنّك فيهم (بعلي) ينادي * لقد وعد الإلهُ الخلقَ نصرا
فهُبّوا لاقتحام النّار وابنُوا * على جثث الفدا للمجد جسرا
وسيف الله يذكيها فيمضي * كأسرع من وميض البرق سرى
فليت العين منك رنت إليهم * إذن لتذكّرت "أحدا وبدرا"

   وبهذا لا غيره، أكدت ثورة نوفمبر أنها لم تكن ردا آنيا دفعت إليه أحداث طارئة، بل كانت مشروعا حضاريا متكاملا في الثقافة والمنهج واللغة والهوية. فكانت العربية والاسلام والجزائر هي مثلث الوعي والهوية، وقاعدة الحشد والانتماء، ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة، كان واضحا أنها اهتدت إلى سبل الرشاد، فكان أهمّ ما تجلّى فيها أنها معلّقة بهدف واضح محدد جلي، إنه حرية الجزائر أرضا وشعبا..

  ومن هنا كان انتصارها حقيقياً، وكانت حريات الشعوب أمانة في جيل نوفمبر الذي حقق انتصاره كمقدمة طبيعية وحقيقية وقوية لانتصار الشعوب وحريتها واستقلالها، وإن مقولة: "إذا كانت مكة قبلة المسلمين، والفاتيكان قبلة المسيحيين، فإن الجزائر تبقى قبلة الثوار"، العبارة التي قالها ذات يوم الزعيم الثوري الإفريقي اميلكال كابرال، لخص من خلالها صدى الثورة الجزائرية التي دوّت عاليا خمسينيات القرن الماضي، واستلهمت منها حركات التحرر في كل قارات العالم أجمع، فكانت مثلها الأعلى، وسارت على دربها لتحقيق حريتها. وحُق لنا أن نقف بإجلال لنجدّد سابغ الترحم على أبطال المقاومة الشعبية- وعلى شهداء الوطن نقرأ فاتحة الكتاب.  

    أيها السادة: واليوم.. على درب الأُلى الذين ساروا على نهج الهدى إصرارا وانتصارا ثورة نوفمبر الخالدة من جديد تعطر أجواء القمة العربية الواعدة، فبقناعة تامة وإيمان لا يضعف من قبل القيادة الحكيمة للجزائر المحروسة بعين الرحمن، وبعد أن أُثخِنت الأمةُ العربية بجراحاتها، وحلُمَت بها كرها واستيقظت بها كرها، ها هي الجزائر على موعدِ عرسٍ يومي 1 و 2 من نوفمبر المقبل بحضور عدد كبير من القادة العرب، في فعاليات القمة العربية الحادية والثلاثين، تزامنا مع الذكرى الـ 68 لانطلاق ثورة نوفمبر المجيدة، وإن اختيار السيد رئيس الجمهورية لهذا التاريخ والمصادقة عليه من قبل نظرائه العرب، هو علامة مشجعة ورمزية، للتعبير عن تصميم القادة العرب على تأكيد استقلالهم في نظام عالمي جديد ناشئ ولا مكان فيه للضعفاء.  

(هذا نوفمبر.. قم وحيّ (المجمعا)
تبقى لمن جهل العروبة مرجعا)

   ولا يخفى على أيّ عاقل أن الحوار طبيعة بشرية، ولا يمكن للبشر أن يعيشوا في مجتمع واحد من دون أن تدور بينهم العلاقة اللغوية التي من بينها الحوار والنقاش. فالحوار لغة أصله من الحَور، وهو الرّجوع عن الشّيء وإلى الشّيء، فعن طريق الحِوار الفعَّال يتبادل المجتمعون الأفكار والمعلومات، ويُقيّمونها، ويُعيدون بناءها، مما يجعلهم سببا في بقاء سفينة الأمة العربية آمنة مطمئنة، تنعم بالسخاء والرخاء والتنمية والازدهار..  

  وإني لآمل لقادتنا منقلباً حميداً، فإن أنظار ما يزيد على مليار وثمانمئة مليون من المسلمين محدقة نحوهم، بعد أن تلوَّعُوا في مجتمعاتهم بأنواع الرزايا والمشكلات التي حلَّت بهم وبإخوانهم، لعله أن تلوح لهم بارقةُ أملِ تحقيق الوثبة المبتغاة على درب النهضة الشاملة..  

  وبغض النظر على مستوى المشاركة فيها، ستكون هذه القمة العربية في دورتها العادية مقارنة بقمم سابقة، محطة فاصلة في التاريخ العربي في إطار دراسة الملفات المطروحة في أبعادها المحلية والإقليمية والدولية، لتحقيق آمال وطموحات الشعوب العربية في مسائل الإستقرار والأمن والسلام والرخاء..  

   أيها المباركون: وفي التاريخ منعطفات مصيرية من يهتبلها ويقتنصها في سبيل تحقيق غايته، هو من ينحت على صفحاته المجد، وإن الصبح لقريب بإذن الله.. والجزائر وعلى رأسها السيد عبد المجيد تبون _حفظه الله وسدّد خطاه_بهذا لا تسعى إلى مجد خاص، ولا إلى مصالح أيديولوجية بقدر ما تقف على مسافة واحدة من الجميع، لتؤكد مرّة أخرى على أنها ستبقى وفية لمبادئها الأصيلة، الداعية إلى إعلاء الحق ونصرة المظلومين مهما طال الزمن، ومهما كان الثمن.. "وهي تتطلّع ـ كما قال وزير دبلوماسيتها ـ أن تشكّل هذه القمة الهامة فرصة لاتخاذ قرارات جريئة بروح توافقية"، وذلك بالنظر الى الملفات المعروضة على القادة، فهي محطة فاصلة في لمّ الشمل وتوحيد الرؤى بين الدول العربية في ظل الإنقسامات التي يشهدها الواقع العربي، خاصة ما تعلق بالقضية الفلسطينية التي أثرت عليها تداعيات حملة التطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل كبير، بالإضافة إلى ملفات أخرى لا تقلّ أهمية..  

   وعلى وتر ذكرى أول نوفمبر يعزف القلم أنغاماً، يمتد صداها إلى فضاءات القمة العربية لهذا الأمل المشروع، فلقد علمتنا ثورة نوفمبر أن التاريخ يسجل ويدوّن وإن لم ينطق اليوم، وأن المرء حين يذهب، فلن يُذكر عنه في الدنيا إلا ما قدمه من أمرٍ لصلاح الدين والدنيا، أو عكس ذلك، وإطباق ثناء الناس على إنسان أو ذمه لن يكون بعيداً عن الحقيقة، فالناس شهداء الله في الأرض..

هذا، وسلام على نوفمبر 1954، سلام على ذكراه الثامنة بعد الستين.   

   جعل الله همّة القادة على قدر أهداف قمّتهم، وأصلح أحوالهم، ويسر أمورهم، ودبّرهم على ما فيه الخير في دينهم ودنياهم، وجعلهم رحمة على رعاياهم، وجمع كلمتهم على ما فيه خير الأمة ورفعتها، وحفظ الله الجزائر، وحفظ لها رئيسها، وحفظ لها رجالها، وأدامها إثمدا في كل عين كل ودود، وعلقما في عين كل حسود..وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين..

13 مايو 2021

 

موضوع الخطبة: العيد رسائل فرح رغم الألم

الخطبة الاولى

    الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر ما صام صائم وأفطر، الله أكبر ما قام مصلّ لله في السحر واستغفر، الله أكبر ما أشرق صباح العيد وأسفر، الله أكبر ما أدّى المؤمن زكاة فطره وتطهّر، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا..

  الحمد لله الرحيمِ الغفَّار المَرجوِّ ثوابُه، العزيزِ الجبَّار المَخشيِّ عذابه، المتكبِّرِ القهَّار المَرهوبِ عقابُه، الجوادِ الكريم الذي شمِل العالَمين إنعامُه، وعمَّ جميعَ المخلوقين إكرامُه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الموصوف بالخلق العظيم، والرحمة بالمؤمنين، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، ورضي عن أصحابه أجمعين.

   أما بعد، فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واشكروه على ما منّ به عليكم من إتمام شهر الصيام، وسلوه القبول والغفران، واعلموا أن هذا اليومَ يومُ عيد يفرح فيه المؤمنون بما منَّ الله به عليهم من نعمة الأمن والإيمان والسلامة والإسلام، "قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ". يونس: 58.

أتاكم العيد بالأفراح فاحتفلوا * وأكثروا من تهاني العيد واتصلوا
وبلّغوا الأهل والأصحاب تهنئة * بالعيد يزهر فيها الحب والأمل

    أيها المسلمون: لقد اكتست الجزائر المحروسة ـ والحمد لله ـ حلّة زاهية مفعمة بالنفحات الإيمانية والبركات الربانية خلال شهر رمضان الفضيل، ورغم الألوان القاتمة التي رسمتها جائحة كورونا إلا أنه ساد فيه جو من الخشوع المخضّب بالفرحة على وجوه الناس بعد أن رفع الله الحجر الصحي وتبسَّمت لهم الدنيا، أرضُها وسماؤها شمسُها وضياؤها، فصاموا لله عدّة رمضان كاملة وقاموا لياليه وأدّوا زكاة فطرهم، وها هم خرجوا لصلاة العيد يكبّرون الله على ما هداهم إليه، وقد امتلأت قلوبهم فرحًا وسرورًا، يسألون الله الرضا والقبول، ويحمدونه على الإنعام بالتمام.   

   كيف لا؟ ورمضان يأتي كل عام حاملًا لنا فيضًا من الهدايا والمنح الربانية السخية؟. وكيف لا؟، وهو الشهر الكريم الذي أنزل فيه القرآن، قال تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ". البقرة:185، قال ابن كثير في هذه الآية: "يمدح ـ الله ـ تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم". الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر.  ولله الحمد. 

      أيها المسلمون: وإن من رسائل العيد أن الله أراد لنا الخير من كل أطرافه، وأتم علينا نعمته من كل جوانبها، وحبّب إلينا ما شرعه لنا من الخير، فقال تعالى في تضاعيف آيات الصيام: "يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". البقرة: 185. فأبشروا يا عباد الله بفضل الله، وأبشروا يا عباد الله بعطاء الله، وأبشروا يا عباد الله عند لقاء الله، فاليوم يوم الفرح والسرور، ويوم القيامة توفون أعظم الأجور. جاء في الحديث: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الطُّرُقِ، فَإِذَا صَلَّوْا، نَادَى مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا رَاشِدِينَ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَهُوَ يَوْمُ الْجَائِزَةِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ الْجَائِزَةِ» أخرجه الطبراني وغيره، وفي إسناده ضعف، ولكن له شواهد مرفوعة وموقوفة، تقوي الاستشهاد به في فضائل الأعمال.

   فيأيها المعيّدون: إنكم في يوم من أيام الله، إنه يوم عيد الفطر المبارك الذي جعله فرحة للصائمين، ومكرمة للقائمين؛ روى البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -- قال: "لِلصّائِمِ فَرْحَتانِ يَفْرَحُهُما، إذا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ"،  فإن من رسائل العيد تأكيد على سمو شريعة الإسلام ومبانيه العظام. قال ابن الأعرابي: "سمّي عيدًا لأنّه يعود كلّ سنة بفرح متجدّد". وهذا المعنى في العيد هو الوارد في السنة النبوية الصحيحة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، قالت: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله ؟، فقال رسول الله: "يا أبا بكر، إنّ لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا". أخرجه البخاري، فافرحوا بهذا العيد، افرحوا رغم الوباء؛ فرسالة عيد الفطر في ظل جائحة كورونا تعلمنا أن الفرح يجلو الأحزان، وإن المنح تستخرج من المحن، والمؤمن دائم الفرح بالله تعالى وبطاعته، دائم الرضا بقضائه وقدره، ومن رضي عن الله تعالى رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وتذكروا أن فيروس كورنا علّم العالمَ أجمع درسا فصيحا بليغا، وهو أن أفراده يعيشون معنى السفينة الواحدة، فما يصيب المرء في شرق الكوكب يتأثر به من يحيا على أرض بعيدة في أقصى غربها، علّمهم أن يعيشوا معنى المصير الواحد، وأن كل خير يتنزّل على الأرض سينعم به إخوتهم في الخلق في مكان آخر، ولذا وجب على الجميع وعلينا خاصة كمسلمين أن نظهر أصالة أخلاقنا وحقيقة إنسانيتنا في إبراز التضامن الاجتماعي بين أبناء المجتمع، وأن نعيش هموم غيرنا ونتخلّى عن فكرة النجاة الفردية، علينا أن نقتدي برسول الله في مشهد يوم القيامة حينما يسجد تحت العرش ويشفع عند ربنا الجليل للفصل بين العباد، ويقول ضارعا: "يا رب أمتي أمتي"،  ونحن نقول يا رب: أمتنا الإنسانية، يا رب قومنا، يا رب وطننا، يا رب أهلنا، يا رب شبابنا، هكذا دون تفرقة بين أحد منهم، لا يليق في وقت الأزمات أن يستأثر أحد دون غيره، أو ينشغل بنفسه عن الآخرين.. وإن نظرة عجلى على حال الأمة الإسلامية وما تعانيه من فرقة وانقسام،  وانفصام عن الذات والهوية، حتى كادت كالهباء المنثور الذي تعبث به رياح العبث السياسي والتيه الأخلاقي، والتشظّي  غير المحمود العواقب والعقبات.  مما يجعلنا نستحضر ما قاله الشاعر عمر بهاء الدين الأميري، قوله:

يقولون لي: عيد سعيد وإنه * ليوم حساب لو نحس ونشعر

أعيد سعيد..  يا لها من سعادة * وأوطاننا فيها الشقاء يزمجر

       أما آن للأمة الإسلامية أن تتخذ من جائحة كورونا محطة للتأمل والعبر بضرورة التوحّد والتعاون والتآزر تجنبا للفُرقة التي ألهبت شرر الخلافات وأوقدت لهيب الحروب في كل مكان، في العراق واليمن وسوريا وليبيا وغير ذلك، مع استحضار ما تعرّض ويتعرض له المسجد الأقصى من انتهاكات، عقب اقتحام قوات الإحتلال لباحات المسجد الأقصى وإلقاء قنابل والغاز المسيل للدموع على جموع المصلين الصائمين، وعلى وقع الدماء اليوم التي ما زالت تسيل، وويلات القصف والتدمير، وآهات الملاحقة والتقتيل، ومرارات الترويع والتخويف يستقبل إخواننا عيد الفطر هناك.. والمسلمون ـ حولهم ـ تفرّقوا شيعاً وفرقاً وأقطاراً، وما بالهم تمزَّقوا في صراع لا يرضاه الله ولا يأذن به؟!.

كم يستغيث المستضعفون وهم * قتلى وأسرى فما يهتزُّ إنسانُ
ما ذا التقاطع في الإسلام بينكمُ * وأنتمُ يا عباد الله إخوانُ

   ألا وإن من سنن الله، أنه ـ سبحانه ـ لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإنحراف عن المنهج وسلوك الطريق الخاطئ . قال تعالى:"ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ". الأنفال:53. ألا وإن صلاح المجموع لا يتأتَّى إلا إذا صلح الأفراد، وصلاح الأعمال لا يمكن إلا إذا صلح الفؤاد، فطهروا ـ رعاكم الله ـ سرائركم، وانظروا إلى الدّين ببصركم وبصائركم، فإنه ـ وأيم الله ـ مليء بالأنوار والأسرار، وإنه لخير كفيل بالعزّة والإنتصار، وبدونه لا يمكن أن نظفر باستقرار ولا ازدهار، ولقد أقام الله سبحانه وتعالى علينا الحجة منذ أن قال بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله  من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم الى صراط مستقيم".  أخذ الله بيدي وأيديكم للسير وفق سير القرآن، وأجارنا جميعا من كيد الشيطان ومكر الإنسان، وتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، هو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

الخطبة الثانية

   الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد..

   الحمد لله معيدِ الجُمعِ والأعياد، ومبيدِ الأُمَمِ والأجناد، وجامعِ الناس ليومٍ لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد. والصلاة والسلام على عبده ورسوله المفضَّلِ على جميع العباد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر والتًّناد.

  أما بعد، عباد الله: واعلموا ـ أيضا ـ إن من رسائل العيد أن جمال هذا الدّين يتلخّص في وعد الله تعالى المؤمنين بالحياة الطيبة، قال تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً". فمهما كانت الظروف صعبة فلا بد من الفرحة، تحقيقا لشعيرة من شعائر الإسلام العظيمة. إنه العيد السعيد الذي جاء بعد عبادة فيها مشقة ومتعة، قال ابن القيم الجوزية رحمه الله: "وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقّة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمناً وتبعاً في بعضها لأسباب اقتضته لا بد منها هي من لوازم هذه النشأة، فأوامره سبحانه وحقه الذي أوجبه على عباده وشرائعه التي شرعها لهم هي قرّة العيون ولذّة القلوب، ونعيم  الأرواح وسرورها، وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها وكمالها في معاشها ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذّة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك". فلنشُدّ ـ أيها المسلمون ـ بالنواجذ على استمرار عبوديتنا لله وطاعتنا وتقوانا وخشيتنا له حتى يُختمَ لنا بالخير والإيمان، ونسعد في الدنيا والآخرة . الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد..

     عباد الله: قد آن لكم أن ترجعوا راشدين إلى بيوتكم على غير الطريق التي أتيتم منها، فاعلموا أنكم في الدين إخوة، وأن المؤمن الحق يرضى بأقدار الله -تعالى-؛ فيشكره على الأقدر الجميلة، ويصطبر على الأقدار المؤلمة؛ ففي كل ذلك خير له، قال : "عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلّا المؤمنُ".  فافرحوا ـ أيها المسلمون ـ في مواطن الفرح واشكروا ربكم على ذلك، واصبروا في مواطن البلاء، حتى تعيشوا بين سعادة أقدار الخير، وبين عبودية التسليم والرضا بأقدار الله المؤلمة. فالمؤمن لا يفسد فرحه وباء، ولا يمنعه من سعادته بلاء، ورحم الله الإمام الشافعي؛ حيث قال:

ولرب نازلةٍ يضيق بها الفتى * ذرعاً وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها * فرجت وكنت أظنها لا تفرج

    فإن من رسائل العيد التي امتنَّ الله بها على عباده في العيد إظهار الفرح، فاحرصوا فيه على صفاءِ النُّفوس وتصفيتها مِن الضغائن والشحناء، حتى يَغفر لكم ربُّكم. كونوا في العيد مِن أهل العفو والصَّفح والتجاوز، وتغافلوا عن الزَّلات والهفوات، وأظهروا الأُلْفة والتآلف، واجتنبوا الفُرْقة وأسبابها، وابتعدوا عن الخصومات والمنازعات. تصافحوا وتزاوروا وتبادلوا التهاني والتبريكات، ولكن مع مراعاة الإحترازات الوقائية كارتداء الكمامات وغيرها من الإجراءات المعلنة للحد من انتشار فيروس كورونا، والله نسأل العافية للجميع.. هذا، وتذكّروا ـ دوما ـ أن المحبة ليست قولا باللسان ولا تعبيرا بالأركان، وإنما هي ميل القلب واطمئنانه إلى أخيه المسلم، فانثُروا عبير الحبّ بين طيات هذه الأيام السعيدة وتَمتعوا بأجواء العيد التي تَملأ الكونِ إشراقا وبهجة.. ليس من أجل العيد فقط بل هذا هو منهاج الله الدائم الذي نتّبعه في كل أيام الله.  

    أسعدنا الله وإياكم بهذا اليوم الجديد، والعيد السعيد، وجعل شهرنا شاهدا لنا بأداء فرضه، وألا يجعلنا ممن جد واجتهد ولم يرضه،  ووصل أيامنا بعده بأجمل السعادات وأكمل البركات، وأعاد شمس العافية إلى مدارها ببلدنا وببلاد المسلمين أجمعين، وأبقانا في عافية وسعد ورزق موفور بمنّه وكرمه وفي الخير متعاونين، اللهم واربط على قلوب ﻓﻲ المسجد الأقصى وأكنافه، واحفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين، وقيد له قائدا كصلاح الدين يحرّره من أيدي الغاصبين ويعيد لنا أمجاد حطين، بمنك وكرمك يا قوي يا متيناللهم وأبرم لهذه الأمة أمرا رشدا، تعز فيه وليك، وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك .اللهم الطف بنا وبالمسلمين فيما جرت به المقادير، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولولي أمرنا ولجميع المسلمين والمسلمات، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد صلاة تهب لنا بها أكمل المراد، وفوق المراد، في دار الدنيا ودار المعاد، عدد ما علمت وزنة ما علمت وملء ما علمت. وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين.

                                  عيد سعيد وكل عام والأمةُ الإسلاميةُ في عزة ورفعة وتأييد