الموضوع: الإنتخاب، والدّعاء لوليّ الأمر
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. والحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأبان لهم آياته ليعرفوه، وسهل لهم طريق الوصول ليصلوا إليه. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبيّنا وإمامنا وقدوتنا، محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيرا. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الناس: اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا، واعلمواـ رحمكم الله ـ أن الذكر أحبّ الكلام إلى الله، ففي الحديث الذي يرويه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟. إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده". رواه مسلم. فذكرُ الله يحيي القلوب وينورها، ويزكي النفوس ويسعدها. فأكثروا من ذكر الله ومن دعائه والتضرع إليه، والدعاء هو العبادة، ولا يرد القضاء إلا الدعاء.
أيها المسلمون: اسألوا الله حوائجكم كلها، صغيرها وكبيرها، عاجلها وآجلها، وانتظروا الفرج من الله. قال تعالى: "ادعوا ربكم تضرعا وخفية". وقال سبحانه: "ادعوني استجب لكم". ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن المؤمن يؤجر إذا دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب، قال تعالى: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان". وعن أبي الدرداء ـ عويمر بن زيد ـ رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يدعو لأخيه المسلم بظهر الغيب، إلا قال الملك: آمين ولك بمثل". رواه مسلم. وعنه رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به، آمين، ولك بمثل". رواه مسلم. ولقد أُثر عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أنه كان يدعو لسبعين من أصحابه يسمّيهم بأسمائهم. وفي هذا العمل علامة على سلامة الصدر .
وإذا كان هذا مما يؤجر عليه، وهو الدعاء للأخ المسلم بظهر الغيب، فلا شك ـ أيها المسلمون ـ أن الدعاء لمن ولاه الله أمر المسلمين أكثر ثوابا وأعظم أجرا، بل هو من النصيحة الواجبة على كل مسلم، كما جاء في الحديث الذي يرويه تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة، قلنا لمن؟. قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". رواه مسلم .
فينبغي للعبد المؤمن أن يتقرب إلى الله بالدعاء لهم في كل وقت، لأن صلاحهم صلاح للأمة، وفسادهم فساد للأمة.
ولهذا ارتأيت ـ في خطبتي اليوم ـ أن أنبه لما يقع فيه بعض العوام، ومن لا علم لهم من الوقيعة والطعن على الحكام والمسؤولين، ويجعلون من ذلك مادة يقضون بها أوقاتهم، وهم بذلك يقعون في الإثم. وفرقٌ بين النصح الرشيد والتهجم والطعن والسبّ. لأن النصيحة لولاة الأمور ضرورة، أما الطعن والشتم ففيه خطر التمزق وضياع الحقوق، وهذا مما يفرح أعداء الإسلام ويثلج صدورهم.
اعلموا رحمكم الله: إنّ صلاح الحكام والمسؤولين صلاح لشعوبهم، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبّوا الأئمة، وادعوا لهم بالصلاح، فإن صلاحهم لكم صلاح". رواه الطبراني في الأوسط. ففي هذا الحديث تأكيد لما ينبغي أن يكون عليه المسلم، أن ينصح وأن يدعو الله بالصلاح من ولاه الله أمور المسلمين. لذا كان الإمام أحمد رحمه الله ـ إمام أهل السنة والجماعة ـ يقول: "لو كانت لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان "، وهذا من فقهه وسعة علمه رحمه الله، فصلاح السلطان صلاح للبلاد والعباد، وظهور الخيرات والبركات، وعلوّ أهل الصلاح، وقمع أهل الفساد والفتنة. بل إن هذا من التعاون على البر والتقوى، ومن اجتماع الكلمة، وسبب في تأليف القلوب، وشفقة الحاكم على رعيته. فعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم من تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ . قال: لا، أما أقاموا فيكم الصلاة ". رواه الإمام أحمد، وأخرجه مسلم بألفاظ مختلفة.
فعلينا ـ عباد الله ـ أن نتقي الله فيما نأتي وما نذر، ولنسأل الله أن يجعل ولايتنا فيمن خافه واتقاه، واتبع أمره ورضاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . .
الخطبة الثانية
الحمد لله، بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضلّ الضالون، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، أحمده وأشكره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا عباد الله: لقد جاء دين الإسلام إكراما للبشرية ورحمة بها، جاء ليرتّب وينظم أمور الناس مادية وروحية، ويقيمها على أسس إصلاحية وقواعد ثابتة. جاء ليبين للناس أسباب العطب فيتجنبوها، وأسباب النجاة فيسلكوها.
ألا وإن مما أوضحه الإسلام وأبانه، علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنبيه صلى الله عليه وسلم، وعلاقته بأميره ورئيسه. يقول سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". والمراد بأولي الأمر، كل من له ولاية شرعية، سواء كان الإمام العام، أو الإمام الشرعي، أو أمير بعثة، أو رئيس عمل.
عباد الله: ألا وإن الله جلّت قدرته قد أوجب لولاة الأمور بهذه الآية وما في معناها، حقا عظيما، بالقيام به تسعد الأمة، ويستتبّ لها الأمن، ويسود السلام، أوجبه من هو عالمٌ بأسرار الكون وطبائع البشر، التي لا تصلح ولن تصلح بدون أمير أو رئيس، أوجبه حفاظا على الحياة الإجتماعية، ورعاية لها من فوضى الجاهلين وطيش المفسدين، لابدّ من وليّ أمرٍ، ولابد من طاعته، وإلا فسد الناس .
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمّروا عليهم أحدهم". رواه الإمام أحمد في المسند . وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم". رواه أبو داود. فأوجب صلى الله عليه وسلم التأمير في السفر، مع أنه اجتماع عارض غير مستقر، فكيف بالإجتماع الدائم المستقر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في السياسية الشرعية: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالإجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بدّ عند الإجتماع من رأس". وساق رحمه الله الحديثين السابقين إلى أن قال: "ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك". ا.هـ.
تُهدى الأمورُ بأهل الرأي ما صلحت فإن تولّت فبالأشــــــــرار تنقاد
لا يصلح القوم فوضى لا سَـــرَاة لهم ولا سَراة لهم إذا جهالهم سادوا
فيا عباد الله: قلت ما سمعتم، فلا يثبطنّكم أصحاب المصالح، والمرجفون الذين يوهنون قوى الأمة، ويفتّون في عضدها، أولئك لا يريدون إلا الفتنة وتفرق الشمل، قوموا مثنى وفرادى، واختاروا من ترونه كفؤا ليتولى أمركم، وأزيلوا عوامل الفرقة والتنافر، وكونوا عباد الله إخوانا.
اللهم وفقنا لاختيار الرجل الصالح الذي يعيننا على ديننا ودنيانا، وألف بيننا وأصلح شأننا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك. اللهم احفظ بلادنا وأمننا وعقيدتنا من كيد الأعداء ودسائس المغرضين، اللهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا. وانصرنا ـ اللهم ـ على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، وانصرنا على أعدائنا حتى نسعد بظهور دينك. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.