الموضوع: ظاهرة انتشار الخمر
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله. وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون". "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما " .
أما بعد، فاتقوا الله:– عباد الله – اتقوا ربكم. وراقبوه في السر والعلن، فبتقوى الله عز وجل تصلح الأمور، وتتلاشى الشرور، ويصلح للناس أمر الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون: لقد كرّم الله عز وجل بني الإنسان على كثير من مخلوقاته، قال تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا". الإسراء:70.
كرم الله بني آدم بخلال كثيرة، امتاز بها عن غيره من المخلوقات من جماد وحيوان ونبات وجان. كرّمه بالعقل، وزينه بالفهم، ووجّهه بالتدبر والتفكر، فكان العقل من أكبر نعم الله على بني الإنسان، به يميّز بين الخير والشر، والضار والنافع، به يسعد في حياته، وبه يدبّر أموره وشؤونه، به يتمتع ويهنأ. بالعقل ترتقي الأمم وتتقدم الحياة وينتظم المجتمع الإنساني العام، وبالعقل يكون مناط التكليف.
العقل: جوهرة ثمينة يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية اعترافا بفضلها، وخوفا من ضياعها وفقدانها، لأنه إذا فقد الإنسان عقله لم يفرّق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات، بل لربّما فاقه الحيوان الأعجم بعلة الإنتفاع، ومن فقد عقله لا نفع فيه ولا ينتفع به بل هو عالة على أهله ومجتمعه .
هذا العقل الثمين الذي هو مناط التكليف، يوجد في بني الإنسان من لا يعتني بأمره، ولا يحيطه بسياج الحفظ والحماية، بل هناك من يضعه تحت قدميه ويتبع شهوته، وتعمى بصيرته، كل هذا يبدو جليا ظاهرا في مثل كأس خمر أو جرعة مخدّر، تفقد الإنسان عقله، فينسلخ من عالم الإنسانية، وينسى ربه ويظلم نفسه ومجتمعه، ويمزق حياته. وإن أمة لا تحافظ على عقول بينها لأمة ضائعة!.
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حادث الإسراء أنه قال: "وأوتيت بإناءين في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، قيل لي: خذ أيّهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت. فقيل لي: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر، غوت أمتك". وفي بعض روايات ابن جرير رحمه الله، إن جبريل قال: "إما أنها ستحرم على أمتك ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل".
عباد الله: إن قول جبريل عليه السلام يؤكد أن الأمة المسلمة لا يمكن أن تتبع شارب الخمر، حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاشاه عن ذلك .
إذن لا يجتمع في الأمة لبن وخمر، بمعنى أنه لا تجتمع فطرة وخمر، فإما فطرة صالحة بلا خمر، وإما تيه وخمر بلا فطرة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". رواه البخاري ومسلم .
أيها الناس: إن رذيلة الخمر– وكما علمتم– آفة خبيثة، لم تفش في عصر من العصور كما فشت في عصرنا، وراجت تجارتها، وكثر السكارى والثمالى في شوارعنا، ما أقاموا للإسلام حرمة، ولا للأخلاق وزنا .
ومن توضيح الواضح أن نذكر ضررها على الفرد في عقله، وجسمه ودينه ودنياه، أو نبيّن خطرها على الأسرة، أو نشرح تهديدها للجماعات والشعوب.. يكفينا أن نقول: أنها تفسد العقل والمزاج، وما قيمة المرء إذا فسد عقله، قال الحسن البصري رحمه الله: "لوكان العقل يشترى لتغال الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده". وقال الضحّاك بن مزاحم لرجل: ما تصنع بالخمر؟ قال: يهضم طعامي. قال: أما إنه يهضم من دينك وعقلك أكثر!.
من أجل هذا – أيها المسلمون – لم يبح الإسلام شربها ولو القليل منها، ولا ملابستها ببيع أو شراء، أو إهداء أو صناعة، ولا إدخالها في متجره أو في بيته، ولا إحضارها في حفلات الأفراح، ولا لتقديمهـا لضيف غير مسلم. لمّا نزلت آية المائدة: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب.." الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرّم الخمر، فمن أدركته هذه الآية فلا يشرب ولا يبع؟". ولقد روي أن رجلا أراد أن يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الله حرمها، فقال الرجل: "أفلا أبيعها؟ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها، فقال: الرجل: "أفلا أكارم بها اليهود؟. فقال النبي : "إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود، فقال الرجل: فكيف أصنع بها؟. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شنّها على البطحاء". وقال: صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه الإمام أحمد ومعناه عند الترمذي: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة تدار عليها الخمر" .
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: "عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له". وقال فقهاؤنا رحمة الله عليهم: "لا يسلّم على شارب الخمر، ولا يعاد إذا مرض، ولا تجاب دعوتـه". قـال البخاري رحمـه اللـه في الأدب المفرد: "باب: لا يسلم على شارب الخمر". وساق بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "لا تسلموا على شرّاب الخمر". وقال أيضا: "لا تعودوا شرّاب الخمر إذا مرضوا " .
فاتقوا الله– أيها الناس– وانتهوا عما نهاكم عنه مولاكم، ولا تستهويّنكم أنفسكم، ولا يغرنكم الشيطان بغروره، "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟ " .
أقول ما تسمعون، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله– أيها المسلمون– واتقوا الخمر فإنها أمّ الخبائث. أخرج النسائي في سننه وابن حبان في صحيحه أن عثمان رضي الله عنه، قام خطيبا فقال: "أيها الناس، اتقوا الخمر فإنها أم الخبائث، وإن رجلا ممن كان قبلكم من العبّاد، كان يختلف إلى المسجد، فلقيته امرأة سوء، فأمرت جاريتها، فأدخلته المنزل، فأغلقت الباب وعندها باطية من خمر، وعندها صبي، فقالت له: لا تفارقني حتى تشرب كأسا من هذا الخمر، أو تواقعني، أو تقتل الصبي، وإلا صحت– يعني صرخت–وقلت: دخل عليّ في بيتي، فمن ذا الذي يصدقك، فضعف الرجل عند ذلك، وقال: أما الفاحشة فلا آتيها، وأما النفس فلا أقتلها، فشرب كأسا من الخمر، فقال: زيديني، فزادته، فوالله ما برح حتى واقع المرأة، وقتل الصبي. قال عثمان رضي الله عنه: فاجتنبوها، فإنها أم الخبائث، وإنه والله لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجل إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر " .
فاتقوا الله– أيها المسلمون– واسألوه العصمة من كبائر الذنوب والفواحش، والتوبة من جميع الإثم والمعاصي، اللهم جنّبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء، ووفقنا للتوبة النصوح، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق