11 يناير 2012


الموضوع: لاتحـزن
 الخطبة الأولى
    الحمد لله مقدر الأيام والشهور، ومصرف الأعوام والدهور، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمه التي تقر بالشكر فلا تبور، وأستمنحه جلّ في عليائه التوفيق في كل الأمور، فهو سبحانه المؤمّل لكشف كل كرب وجبر كل مكسور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغفور الشكور. وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى والنور، فأشرقت شمس الحق في كل الربوع والدور، وزكت النفوس العليلة، فغدت في سعادة ورضوان وحبور. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ليوث الوغى والخدور، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور، وسلم تسليما كثيرا.
     أما بعد، قال تعالى في كتابه الكريم: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين". الآيات139ـ ـ141 آل عمران.
أيها المسلمون: هذه آية صادقة من كتاب الله تحارب في نفوس المسلمين اليأس والحزن والقنوط، وتغرس في قلوبهم الأمل والرجاء، وتبين لهم أن الأيام دول، إن رفعت لابد أن تخفض، وإن أعطت القليل لابد أن تأخذ الكثير، وإن أضحكت مرة، لابد أن تبكي مرات، هذا شأنها وديدنها.
جبلت على كدر وأنت تريدها    صـــفوا من الآلام والأكدار
  ومكلف الأيام ضد طبـــــــــــــاعها      متطلب في الماء جذوة النار
هكذا أريد للدنيا، كدرها أضعاف صفوها، وحزنها أضعاف سرورها، هي بطولها وعرضها ملآى بالضوائق والمشقات، محفوفة بالمكاره ومحاطة بالمتاعب، خليط من الحزن والفرح والقوة والضعف والغنى والفقر، تتناوب الإنسان فيها متناقضاتها، فيرى نفسه أمام سلسلة من الآلام والأحزان  لاتقف عند حد ولا تنتهي عند غاية.
                       ثمانية لابد منها على الفـتى      ولابد أن تجري عليه الثمانـية
                      سرور وهمّ واجتماع وفرقة       ويسر وعسر ثم سـقم وعافـية
ولهذا ففي الآية التي صدرنا بها حديثنا، يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وهم في غزوة أحد: "ولا تهنوا ولا تحزنوا"، وقد أصابهم من النكبات والأحزان ما قطّع أحشاءهم ومزّق قلوبهم وفتّت أكبادهم، بل لقد أصابهم من البلاء ما زلزل إيمانهم وزعزع يقينهم، وجعلهم يفرّون من المعركة حيث الفرار كبيرة وجريمة، ويتخاذلون حيث التخاذل إثم وعار. كيف وقد رأوا حبيبهم ـ صلى الله عليه وسلمـ وقد وطئ الأعداء ظهره وهشّموا أسنانه وأسالوا دماءه، فعلت سيوفُ المشركين بأبطال الإسلام فعلتها. استشهد أسد الله حمزة، ويكفي أن نقرأ قول الله تعالى وهو يصف حالهم: "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم ..."
ولكن الذي يجب أن يذكر فلا ينسى، أن الأيام دول. عليكم ـ أيها المسلمون ـ أن ترجعوا إلى الوراء فتذكروا غزوة بدر، وقد أنزلتم بالمشركين أضعاف ما أنزلوا بكم، فـ"لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس".
       هكذاـ أيها المسلمون ـ يعلمنا الإسلام أن لا نحزن على ما فات، ولا نفرح بما هو كائن، ولا نخاف مما هو آت.
 ما مضى يا نفس فاصطبري له  ولك الأمان من الذي لم يـقــــــدر
    وتحققي أن المـــقدّر كــــــــــــــــــــــــــــــــــــائن   يجري عليك حذرت أم لم تحذري
نعم؛ هناك من الناس من تنزل به النازلة من مصائب الدهر، كأن يفقد حبيبا أو يخسر في تجارة أو يرسب في امتحان أو ... فيطيل التفكير في هذه النازلة شهورا بل أعواما، يجترّ آلامها ويستعيد ذكرياتها، يائسا حزينا، متحسّرا تارة ومتمنيا أخرى، يردّد ليتني فعلت، وليتني تركت، ولو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا. وقديما قال الشاعر:
ليتَ شِعري وأينَ منِّيَ ليتٌ... إنَّ ليتاً وإنَّ لوّاً عناءُ
    فيا أيها المسلم: لا تحزن على ما فات، واعمل لما هو آت، الحزن مضيعة للوقت في غير مفيد، والحزين لا يذوق للحياة طعما. دائم الكآبة، ضيق الصدر، متبرم بالحياة. ألم تر إلى تلك السكينة التي عمرت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة؟. لم يعتره همّ ولا حزن، ولم يستبد به خوف ولا وجل، وإن صاحبه الصديق ـ رضي الله عنه ـ قد غلبت عليه مشاعر الخوف والحزن والإشفاق لا على نفسه بل على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مصير الرسالة، حتى قال والأعداء محدقون بالغار: "يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا". فيطمئنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكرـ لا تحزن ـ ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
يجب على المسلم أن يعرف أنّ ما ينزل من بلاء ومصائب ليس ضربات عجماء، ولا خبط عشواء، ولكن وفق قدر معلوم، وقضاء مرسوم، وحكمة أزلية، و كتابة إلهية. "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور".
إن المسلم عليه أن يسلّم أمره لله ويرضى، فلو كان الحزن يردّ فائتا أو يدفع حاصلا لكنا فيه معذورين، ولكنه حرق للدم، ومضيعة للوقت، وسخط على القضاء، وتعلّق بما لا سبيل إليه، وتكاسل عن عمل ينسي المصيبة أو يخفف ألمها .
لذا تعوّذ الرسول صلى الله عليه وسلم من الهمّ والحزن، ووجهنا إلى ذلك في شخص أبي أمامة، وقد وجده في المسجد جالسا في غير وقت صلاة . يروي ذلك أبو سعيد فيقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا برجل من الأنصار يقال له أبو أمامه جالسا فيه، فقال: "يا أبا أمامة مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة؟. قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. فقال: ألا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همّك، وقضى عنك دينك؟، فقال بلى يا رسول الله. قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"، قال: فقلت ذلك فأذهب الله همي، وقضى ديني". رواه أبو داود.
    أيها المسلمون: إنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن الهموم والأحزان عدوٌّ قوي، وداء دويّ، فهي تخرم الجسم الجسيم، وتمرض العقل السليم، وتكدّر البال، وتكسف الحال. لكنها تزول بالدواء، وتذهب بالدعاء، فإذا استطعت ـ أيها المسلم ـ أن تحفظ هذا الدعاء الذي خرج من فم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم والذي لا ينطق عن الهوى، فأبشرـ والله ـ بخير ، واعلم يقينا أنك إذا قلتها وأنت تحسن الظن بالله، فسوف يفرّج همك ويذهب حزنك.
إن هناك ـ وللأسف ـ كثيرا من الناس يستسلمون للمجهول عندما يملك الهم نفوسهم، ويشغل القلق بالهم، ويكدر الحزن نفوسهم، فتراهم ربما يفزعون إلى الأطباء والصيادلة، ولربما إلى المشعوذين والسحرة، وماذا عليهم لو آتوا البيوت من أبوابها؟. إن الأطباء النفسانيين مجمعون على أن علاج القلق والتوتر النفسي والتأزّم الروحي يتوقف إلى حدّ كبير على الإفضاء بمبعث التوتر ومنشأ الأزمة إلى صديق قريب أو وليّ حميم، فإذا لم يجد المسلم من يفضي إليه فكفى بالله وليّا ونصيرا.
لقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما أصاب عبداً همّ ولا حزن فقال: "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي. إلا أذهب الله غمّه وأبدله مكانه فرحا. قالوا يا رسول الله: أفلا نتعلمهن؟ قال بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن ".
  اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وانفعنا بما سمعنا، والحمد لله رب العالمين .
الخطبة الثانية
      الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
        أما بعد، فيا عباد الله: ففي الإتصال بالله قوّة للنفس، ومددٌ للعزيمة، وطمأنينة للروح. ألم يجعل الله الصلاة سلاحا للمؤمن يستعين بها في معركة الحياة، ويواجه بها كوارثها وآلامها؟. ألم يقل سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة "؟. ألم يكن نبينا صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ؟ .
فلا تيأس أيها المسلم ولا تحزن، واستعن بالله ولا تعجز. روى الحاكم عن الحسن البصري مرسلا، أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: "لن يغلب عسر يسريين"، أي كما دلّ عليه قوله جلّ في علاه: "فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا"، لأن النكرة المعادة غير الأولى، والمعرفة المعادة عين الأولى. وقد أحسن من قال:
  لا تجزعنّ لعسرة من بعدها يسران وعداً ليس فيه خلاف
                                    كم عسرة ضاق الفتى لنزولـــــــــــــــــــــــــــــــها لله في أعــطافها إلطــــاف
واتق الله، فإن تقوى الله عزّ وجل سبب الأمن في الدنيا، والهداية في الآخرة، "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون".
       هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأفضل البشرية، محمد بن عبد الله، اللهم صل وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم فرّج همّ المهمومين من المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،  وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق