11 يناير 2012


الموضوع: "لا تقنطوا من رحمة الله"
الخطبة الأولى
   الحمد لله الذي بتحميده يستفتح كل كتاب، وبذكره يصدر كل خطاب، وبفضله يتنعّم أهل النعيم في دار الثواب، وباسمه يتسلى الأشقياء وإن أرخى دونهم الحجاب، وضرب بينهم وبين السعداء بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نتوب إليه توبة من يوقن أنه رب الأرباب ومسبب الأسباب، ونرجو رجاء من يعلم أنه الملك الرحيم الغفور التواب. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه صلاة تنقذنا من هول المطلع يوم العرض والحساب. ورضي الله عن آله وأصحابه أولي النهى والألباب.
    أما بعد، فيا عباد الله: أوصيكم ـ ونفسي ـ بتقوى الله عز وجل، و التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها. وإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلني الله وإياكم من المتقين.
   أيها المسلمون: روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "أربع آيات من سورة النساء، خير لهذه الأمة من الدنيا وما فيها، قول الله عز وجل: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". وقوله تعالى: "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما". وقوله تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم من سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما". وقوله تعالى: "ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما".                
فيا من أساء فيما مضى ثم اعترف    كن محسنا فيما بقي تلق الشرف
واسمع كلام الله في محكم تنـــزيله       "إن ينتهوا يغــــفر لهم ما قد سلف"
   أيها المسلمون: إن الإسلام يدعو الناس إلى الحياة، ولا عليهم أن يخطئوا، فباب التوبة مفتوح على مصراعيه إلى يوم القيامة، "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، العائدون إلى ربهم، الخارجون من الظلمات إلى النور سراعا. كل الذنوب يغفرها الله متى أناب العبد ورجع إلى ربه. وإن رسولنا الرحيم يضعنا أمام مشهد تذوب الأفئدة من فرط حنانه. يقول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم".
    فيا رعاكم الله: أترون إلى هذا الحد يحب الله أن يكون غفورا، وأن يكون توابا شكورا. لماذا؟.
أهو يشبع بذلك حاجة في نفسه؟ حاشاه !. فهو الغني الحميد، وهو الكبير المتعال. إنما يشبع حاجات في أنفس عباده حين يخبرهم أن كل أبوابه مفتحة لهم حين يرجعون، وكل رحمته سابغة عليهم حين يطلبون، فإذا أقلقهم الخوف من عدله، طمأنهم الرجاء في فضله، لا يأسٌ ولا قنوطٌ أبدا مهما تكثر الذنوب وتعظم الخطايا. فإن التوبة الصادقة لا تهب التائب عفو الله و حسب، بل تهبه حبه أيضا. "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين"، بل تهبه عطاء آخر ليسمعه مني أولئك الذين يدعون وهم من إجابة الله في شك، أولئك الذين يسمحون لليأس أن يحجبهم عن رؤية الرحيم الكريم والمجيد الودود، بل اسمعوا أنتم ـ يا عباد الله ـ هذه الرسالة القدسية التي يخاطب الله فيها عباده .كما ورد في صحف إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام، يقول الله فيها :
 "..من العزيز الحميد إلى من أبق من العبيد، سلام عليكم، هذه رسالتي إليكم بما اختصصتكم به من نور العلم وذكاء الفهم، فأول ذلك أني أخرجتكم من العدم إلى الوجود، واخترت لكم الجود، وأنشأت لكم الأسماع فسمعتم، والأبصار فأبصرتم، والألسنة فنطقتم، والقلوب ففهمتم، وأشهدتكم على أنفسكم بالوحدانية فشهدتم، وعند الإقبال أدبرتم، وبعد الإقرار أنكرتم ونقضتم عهودنا، فلا يوحشنّكم ذلك منا، فإن عدتم عدنا، وزدنا في الكرم وجدنا. فمن عثر أقلنا، ومن تاب قبلنا، ومن نسي ذكرنا، ومن عمل قليلا شكرنا، نعطي ونمنح، ونجود ونسمح، ونعفو ونصفح، كرمنا مبذول، وسترنا مسبول.
...عبدي انظر إلى السماء وارتفاعها، والشمس وشعاعها، والأرض وأقطارها، والبحار وأمواجها، والفصول وأزمانها، والأوقات وإتيانها، وما هو ظاهر وكامن، ومتحرك وساكن، ومستيقظ وراقد، وراكع وساجد، وما غاب وما حضر، وما خفي وما ظهر، الكل يشهد بجلالي، ويقر بكمالي، ويعلن عن ذكري ولا يغفل شكري.
.....عبدي أذكرك وتنساني، وأسترك ولا ترعاني، لو أمرت الأرض لابتلعت من حينها، أو البحار لأغرقتك في معينها. ولكن أحميك بقدرتي، وأمدك بقوتي،  وأُأجلك إلى أجل أجلته، ووقت وقته... فوعزتي وجلالي لابد لك من الورود علي، والوقوف بين يدي، أُعدّد عليك أعمالك، وأذكرك أفعالك، حتى إذا أيقنت بالبوار، قلت لامحالة أنك من أهل النار، واليتك غفراني، ومنحتك رضواني، وغفرت لك الأوزار، وقلت لك لا تحزن، فمن أجلك سميت نفسي العزيز الغفار".
   فيا أيها التائهون.. هذه دعوة الله إليكم، حتى لا يتسرّب اليأس والقنوط إلى قلوبكم ـ وهو محرم عليكم ـ وحتى لا يحول بينكم وبين خالقكم ذنب وإن عظم. فهو سبحانه القائل: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم". فما أرحمه بعباده المذنبين! وما أحلمه من رب كريم!.
      ويا عباد الله: هذا داعي الله فأجيبوه ، وهذا باب الله فلجوه، فإنكم مهما رجعتم إليه لا تطردوا، ومهما قصدتم إليه تقبلوا وتكرموا.
 اللهم كما فتحت بابك، فوفقنا إليه، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

                                                            
الخطبة الثانية
     الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
      أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه، وليكن هدفكم الأسمى أن يرضى عنكم، وأن يختم لكم بالإيمان حتى تكونوا من الذين أراد بهم خيرا. فقد ورد في الحديث الشريف. "إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله، قيل: وكيف يستعمله يا رسول الله؟، قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت، ثم يقبضه إليه".
وأبشروا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة". رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. 
  يا رب إن ذنوبي في الورى كـــثرت   وليس لي عمل في الحشر ينجـــــــيني
وقد أتيتك بالتوحــيد يصحــــــــبه     حب النبي وهذا القدر يكفـــــــــيني
  اللهم أصلح أحوالنا، وأحسن ختامنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم ارزقنا التقوى مع العلم، والصحة مع الإيمان، وثبت قلوبنا على دينك، ونفوسنا على طاعتك، وأبداننا على عبادتك، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق