10 يناير 2012


الموضوع: الخشوع في الصلاة
الخطبة الأولى 
          الحمد لله، فرض الصلاة على العباد رحمة بهم وإحسانا، وجعلها صلة بيـنهم وبيـنه ليزدادوا بذلك إيمانا، وتوعّد من أضاعها أن يلقى غيّا وهوانا. وأشـهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد. هو ربنا ومولانا. وأشــهد أن محمدا عبده ورسوله، أخشى الناس لربه سرّا وإعلانا. الذي جعل الله قرة عينيه في الصلاة، فنعم العمل والأسوة لمن أراد من ربه فضلا ورضوانا. صــلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.    
    أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه، وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين، وعظموها فقد عظمها رب العزة، إذ فرضــها على نبيه من غير واسطة من فوق سبع سموات .  
     روى الإمام أحمد والطبراني وابن حبان عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبيّ بن خلف" .
      أيها المسلمون: كيف تضيعون الصلاة وهي الصلة بينكم وبين ربكم؟.  فالمصلي إذا قام للصلاة استقبله الله بوجهه، فقد جاء في موطإ الإمام مالك رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال" سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَءُوا يَقُولُ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي وَيَقُولُ الْعَبْدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}يَقُولُ الله: أثنى عَلَيَّ عَبْدِي وَيَقُولُ الْعَبْدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَهَذِهِ الآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يقول العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }فَهَؤُلاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سأل".
   هكذاـ أيها المسلم ـ يجيبك ربك من فوق سبع سموات، فينبغي أن تقبل بقلبك على ربك، وتصرف عنك الشواغل بالتفكير في معنى الآيات. والتفهم لكل عمل من أعمال الصلاة. فإنه: "لا يكتب للمرء من الصلاة إلا ما عقل منها". حافظ على صلاتك، واخشع فيها واعلم أن نبيك – صلى الله عليه وسلم – كان حفيا بعبادة ربه جميعها. بيد أن الصلاة تقف وحدها بين تلكم الحفاوات. لأنه صلى الله عليه وسلم يدرك ما للصلاة من منزلة عند الله.
وحين نأخذ مشهدا من مشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو واقف في الصلاة ندرك جلال الموقف الذي تمثله الصلاة عنده.
يصف واحد من أصحابه أحد هذه المشاهد فيقول: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء". ويصف الإمام عليّ مشهدا آخر في أيام غزوة بدر فيقول: "ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وهو يصلي ويبكي". نعم ! يصلي ويبكي .. ألم يقل عليه الصلاة والسلام: "وجعلت قرة عيني في الصلاة".
      للأسف، أيها المسلمون: إن كثيرا من المصلين لا يعرفون الصلاة ولا يقدّرونها حق قدرها. لذا ثقلت عليهم فلم تكن قرة لأعينهم، ولا راحة لنفوسهم، ولا نورا لقلوبهم. ينقرونها نقر الغراب، لا يخشعون ولا يطمئنون فيها.
نقول لهؤلاء : إن الخشوع ركن من أركان الصلاة. فمن لم يخشع ويطمئن في صلاته فلا صلاة له، ولو صلى مئة مرة، وذلك لحديث المسيء في صلاته .
  روى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "دخل رجل المسجد فصلى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم. فرد عليه السلام، وقال ارجع فصل، فإنك لم تصل، فرجع، ففعل ذلك ثلاث مرات، قال، فقال: "والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا. فعلمني!. فقال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتـى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ،ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" .
    أيها المسلمون: إن الصلاة بمثابة خط هاتفي بين المؤمن وربه. فأينا لو كان يملك هذا الخط مع رئيس أو وزير، ألا يتمنى استثماره في كل حين؟.  وأينا لا يتمنّى أن تطول المحادثة وتطول؟ .   
لقد أدرك الصالحون الأولون هذا. وقد تعجب حين تتبع أنباءهم في الصلاة، فحفاوتهم في الصلاة وتوقيرهم إياها وفناؤهم فيها أمر يتعاظم كل وصف!.
 روى البيهقي عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال "سمعت نشيج عمر رضي الله  عنه، وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح وهو يقرأ سورة يوسف حتى بلغ: "إنما أشكو بثي وحزني على الله ... ". وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "صليت خلف عمر فسمعت خَنينه من خلف ثلاث صفوف". رواه أبو نعيم في الحلية. وخرّج أيضا عن ابن المنكدر قال: "لو رأيت ابن الزبير وهو يصلي لقلت: "غصن شجرة يصفقها الريح، إن المنجنيق ليقع هاهنا وهاهنا ولا يبالي ". أما العابد الزاهد عمر بن عتبة، فقد قام ذات ليلة في ظلام الليل وهدأته يصلي  ويسمع أصحابه القائمون إلى جواره في الفضاء المكشوف زئير أسد يقترب. فيولّون هاربين. ويستمرّ عمر في صلاته لا يهتز ولا يختلج. ويقترب منه الأسد، ويطوف حوله ويتشمّم ويحملق، وعمرو بن عتبة كأنه غير موجود. وينصرف عنه الأسد في سلام. ويعود أصحابه، ويسألونه بعد أن أتم صلاته. أما خفت الأسد؟ .فيجيبهم: "إني لأستحي من الله أن أخاف شيئا وأنا بين يديه" !.
هكذا - أيها المسلمون - كانت الصلاة قرّة عيون العارفين، وراحة لقلوبهم لما يجدون فيها من اللذة والإنس بربهم ومعبودهم.
فاتقوا الله وأقيموا صلاتكم، وحافظوا عليها، واخشعوا فيها. فقد قال عزّ من قائل: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ".
نفعني الله وإياكم بالذكر الحكيم. ..       
الخطبة الثانية
    الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
     أما بعد، فيا عباد الله: لقد سئل يوما حاتم الأصم عن صلاته فقال: "إذا حانت الصلاة، أسبغت الوضوء وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، وأكبر تكبيرا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعا بتواضع، وأسجد سجودا بتخشع، وأقعد على الورك الأيس، وافترش ظهر قدمها، وانصب القدم اليمنى على الإبهام، وأتبعها الإخلاص، ثم  لا أدري أقبلت مني أم لا؟.
    فاتقوا الله أيها المسلمون، وحافظوا على صلواتكم، وقوموا لله قانتين خاضعين خاشعين لتكونوا من المفلحين، واحذروا. فقد روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحسن الرجل الصلاة فأتمّ ركوعها وسجودها قالت الصلاة: حفظك الله كما حفظتني، فترفع.  وإذا أساء الرجل الصلاة فلم يتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة: ضيعك الله كما ضيعتني.  فتلفّ كما يلفّ الثوب الخلق، فيضربوا بها وجهه". نسأل الله السلامة.
   اللهم اجعلنا وذرياتنا من مقيمي الصلاة، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا رب العالمين . ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق