الموضوع: حديث إلى التجار
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العلمين، أنعم ووعد الشاكرين بالمزيد، وتوعّد الـكافرين لنـعمه بالعذاب الشديد، أحمده سبحانه وأشكره، أحل البيع و حرم الربا، وغـفر لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، حثّ على الكسب الحلال، و حذر من الكسب الحرام، فقال فيما رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أيّما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به". اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع هداه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، أيها المسلمون: خلق الله الخلق، و بسط الرزق، ووهـب الإنـسان العقل والطاقة، ويسّر أمامه الحيلة والوسيلة، وحثّه على السعي والحركة، ووعده بالخير والـبركة، وأعلـمـه بـأنه لا يضيع أجر من أحسن عملا.
واقتضت حكمته الإلهية أن يكون الناس مختلفين في الدرجات، متفاوتين في الغنى والفقر، وقضت بأن يعيش بعضهم تحت ظل البعض، يعمل له ويستمد رزقه من رزقه، قال تعالى في سورة الزخرف: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون".
عباد الله: إن مطالب الحياة مهما تنوعت، وظهرت في صور مختلفة، وتباينت أنواع المعاملات، فأساسها الذي تبنى عليه، ومحورها الذي تدور عليه، هو "البيع والـشراء"، وهما أمـران ضروريـان لا غنى للـنـاس عنهـما لتوفير السلع والضروريات التي تمس الحاجة إليها. وقيام فريق من الناس في هذا الميدان أمر يحتّمه الإسلام، و يوجبه على أتباعه ما دام أمر المعاش يتوقف عليه، وقد جاء في الحث على السعي لطلب الحلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب الحلال واجب على كل مسلم"، رواه الطبراني عن أنس بن مالك . ومما يدل على أنّ الإشتغال بالتجارة عـمـل كـريم شريف، أن خيرة الله من خلقـه، و صفوته من عباده – صلى الله عليه و سلم – من أهل بيت التجارة، وأنه صلى الله عليه و سلم بقي فترة من عمره تاجرا يشتري ويبيع، ويسافر ويجلب البضائع و يربح، وكذلك كان أصحابه رضوان الله عليهم.
وإليكم – أيها التجار – هذه البشرى، ممّن لا ينطق عن الهوى، والتي تؤكد عناية الإسلام بالتجارة والتجار، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فيما رواه الترمذي: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء".
إنها – أيها التجار – منزلة عالية، ومكانة سامية، أعدّها الله للتاجر الذي صار الصدق سجية له، وعرفت عنه الأمانة والتحرز من الشبهات، فهو يوم لا ينفع مال ولا بنون يكون في منازل النبيين والصدّيقـيـن والشهداء، وما أشرفها وأكرمها من منازل!.
فـيا من اخترت هذه المهنة؟. وهي طيبة مباركة، يجب عليك أن تتعلم أحكامها، وما يصحح بيعك وما يفسده، حتى تكون معاملتك صحيحة، وتصرفك بعيدا عن الفساد، ويكون رزقك حلالا مباركا فيه. واعلم بأن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يدخل السوق، ويضرب بعض التجار بالدرّة ،ويقول: "لا يبيع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا شاء أم أبى"، رواه الترمذي. وقال العلامة الفاضل سيدي أبي عبد الله محمد الخرشي: "البيع هو مما يتعين الإهتمام به وبمعرفة أحكامه لعموم الحاجة إليه والبلوى به، إذ لا يخلو المكلف غالبا من بيع وشراء، فيجب أن يعلم حكم الله فيه قبل التلبس به". (مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل).
ولكن – للأسف – إن كثيرا من التجار أهملوا هذا الباب، وأغفلوا هذه الناحية، وأصبحوا لا يبالون بأكل الحرام، مهما زاد الربح وتضاعف الكسب، فهناك من يطفّف الكيل والميزان، وهناك من يخلط الرديء بالجيد، وهناك من يحلف على الرديء ليبيعه بثمن الجيد، وهناك وهناك ... وتخلّى التجار عن فضائل عملهم وواجباتهم، والرسول صلى الله عليه و سلم – العزيز عليه أن يصيب أمته عنت ومشقة، الحريص على سعادتها – كان كثيرا ما ينـصح الـتـجـار ويرشدهم.
فلقد خرج ذات يوم إلى سوق الناس، فرآهم يتساومون ويتبايعون فاستمع إليهم، ورأى صور تبايعهم فقال: "يا معشر التجار، يا معشر التجار"، فرفعوا رؤوسهم استجابة لندائه وإنصاتا له، فقال: "إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق". رواه الترمذي .
"اتقى الله": اتقى سخطه وغضبه، فلم يظلم أحدا من خلقه. و "بــرّ " أي لم يحلف ويحنث في يمينه، و "صدق" أي لم يكذب ولم يغش.
بهذا نصح النبي صلى الله عليه و سلم التجار، لأنّ هناك من تدفعه محبة الربح، وحرصه على جمع الحطام إلى الحلف الكاذب والغش، وهي ظواهر تفشت في أسواقنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فاتقوا الله – أيها التجار - واتقوا أسباب سخطه وعقابه، وكونوا مع الصادقين، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون. وفقنا الله وإياكم وجميع المسلمين إلى ما فيه الخير والرشاد.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلـى آله وصحـبـه أجـمـعـيـن.
أما بعد، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت بللا، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟. قال: "أصابته السماء يا رسول الله"، قـال: "أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا "؟.
أيها المسلمون: إنها حملة تفتيشية على موادّ التموين، يقوم بها المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويضبط فيها الغش، ويحقق فيه، تم يصدر حكمه على الغاش، فيخرجه من جماعة المسلمين، ويرى في ذلك أن الغش لواحد من المسلمين غش لجماعتهم. "من غشنا فليس منا".
إن الرسول صلى الله عليه و سلم حريص على أن تظل مصادر الرزق للناس بعيدة عن كل مناورة ومؤامرة، فكل تاجر يتسبب في احتكار الأرزاق، أو يتدخل في رفع أسعارها، لا يجد له في رحاب الله ولا في رحاب رسوله مكانا، يقول صلى الله عليه وسلم: "من احتكر طعاما أربعين ليلة، فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه". رواه الإمام أحمد. وروى أيضا: " من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم، كان حقا على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعُظمٍ من النار يوم القيامة".
فاتقوا الله – عباد الله – وانظروا ماذا تقدمون لغد، "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم". الشعراء:88.
حرروا مكاسبكم، واجعلوها غنيمة لكم تقيكم عذاب الله، ولا تجعلوها غرما فتفقدوا بركتها، وتكونون يوم القيامة من الخاسرين.
اللهم وفقنا ووفق تجارنا إلى الكسب الحلال الطيب، وبارك لنا فيما رزقتنا. اللهم باعد بيننا وبين الحرام كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، وقنا الزلازل والمحن، واحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. ووفق-اللهم- ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام. واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونـا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنـة وقـنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق