27 يونيو 2012


الموضوع: عيد الإستقلال
الخطبة الأولى
  الحمد لله رب العالمين، شرع الجهاد لحماية حوزة الإسلام، أحمده سبحانه جعل النصر لحزبه، فأعظم بتأييد الملك العلام. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله، ما تعاقبت الليالي والأيام.
  أما بعد، فقد قال تعالى: "الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم" . التوبة:20ـ22.          
   عباد الله: في الخامس من شهر "جويلية" تحتفل الجزائر باستقلالها ومولد حريتها، وهذا اليوم ليس بالعادي في تاريخ الجزائر، إذ هو يوم احتلالها– يوم وقع فيه "الدّاي حسين" على وثيقة الاحتلال– وكان ممكنا أن تحتفل الجزائر باستقلالها قبل هذا اليوم. لأن قرار توقيف إطلاق النار، كان يوم 19 مارس، ولكن الرجال الأحرار، والمجاهدين الأبطال، أبوا إلا أن يثأروا لكل يوم موتور من تاريخ الجزائر، حتى يحققوا للحرية نصاعتها وقدسيتها.
  أيها المسلمون: إنكم تحتفلون بعيد الإستقلال، فما تراني أقول لكم؟. وقد سبقني كتّاب أفاضل فأفاضوا القول. وعلماء أكابر فأبدعوا اللفظ، ولم يدعوا مجالا لقائل، ولا مسلكا لسائر، ولكن هذه الجزائر. قبلة الثوار وكعبة الأحرار، فكلما اقتربت كان المنهل عذبا والنهر فياضا.
    أيها المسلمون: جاء الاستعمار الدنس إلى الجزائر، وكما يقول الشيخ البشير الإبراهيمي عليه رحمة الله: "يحمل السيف والصليب، ذلك للتمكّن وهذا للتمكين فملك الأرض، واستعبد الرقاب، وفرض الجزية، وسخر العقول والأبدان".         
نعم ! لقد وقف الإستعمار للإسلام بالمرصاد منذ أول يوم ، وتدخل في شعائره وشرائعه بالتضييق بروح مسيحية، فلقد وقف "شارل العاشر " ملك فرنسا يقول في خطاب العرش، يوم 2 مارس 1830 ما نصه: "إن العمل الذي سأقوم به لترضية شرف فرنسا، سيكون بإعانة الله القدير لفائدة المسيحية جمعاء".  وقال الحاكم الفرنسي للجزائر بمناسبة مرور (100) مائة عام على احتلالها: "يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم، حتى ننتصر عليهم".
  ولقد أثار هذا المعنى حادثة طريفة جرت في فرنسا، وهي أنها ومن أجل القضاء على القرآن من نفوس شباب الجزائر، قامت بتجربة عملية. قامت بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماما. وبعد أحد عشرة (11) عاما من الجهود، هيأت لهن حفلة تخريج رائعة، دعي إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون، ولما ابتدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري. وثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: "ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مئة وثمانية وعشرين عاما؟. أجاب "لاكوست" وزير المستعمرات الفرنسي، وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا"؟. الله أكبر .
صدق من قال عليه رحمة الله :
 شعب الجـزائر مســلـم      و إلـى العروبـة ينتسـب
  من قـال حاد عـن أصله   أو قـال مات فقـد كـذب
                                    أو رام إدمـــــــــاجا  لــــــــــه   رام المحـــــال من الطلـب
    أيها المسلمون: إن هذا الشعب العظيم ألحّ عليه الإستعمار الفرنسي في وطنه بالقهر والفقر والعذاب والخراب، والقمع والاضطهاد، والمسخ والتشويه، ومنعه من كل وسائل الحياة، وسلّط عليه أسباب الفناء، فما وهن ولا ضعف، ولكن أراد الحياة، فاستجاب له القدر، وآمن بأن الجهاد في سبيل الله هو غاية الفضل ونهاية العمل، وأن شهداء الجهاد على موعد مع الله، لا يذيقهم طعم العذاب وسكرة الموت، وأنهم من ساعة استشهادهم أحياء يرزقون، فقام الشعب – كما يقول المرحوم أحمد توفيق المدني: "كإعصار فيه نار، يصبّ على الظالمين المستعمرين ما تراكم فوق فؤاده من حمم الحقد والضغينة التي تولدت خلال مائة وعشرين عاما، كلها آلام، وكلها جراح، وكلها مصائب وآثام، وكلها لصوصية ونهب وانتهاك حرمات وإهدار كرامة".  واجتمعت في صفوف الثورة المقدسة كل ما يملكه شعب أبيّ قام مستجيبا لدعوة الجهاد، واجتمعت في جهاده الأقانيم الخمسة التي تكونت منها الحرية، ورفعت راية الاستقلال عالية، "دم الشهيد، وجهود الفدائي، ومداد الكاتب، وكلمة الخطيب، ومال المقتدر " .
     بل اسمعواـ أيها المسلمون ـ إلى صاحب الإلياذة رحمه الله:
إذا الشعـر خلّد أُســـــــــــــد الـرهان    أينسـى مغـامـرة الحيـوان؟
أينسى البغـال أينسى الحمـــــــير     وهل ببـطولتهـا يُستــهان؟
سلاما على البغل يعلـو الجبــــــــــال ثقيـلا فيكـبـره الـثـقـــــلان؟
وعـاش الحمار يقـل الســـــلاح ويغشى المعامـع ثبت الجنـان
وبارك فأرا.. يـوزع نـــــــــــــــــــارا      فيخلع بالـرعب قلب الجبـان
ويلقى الشهادة  شهـما كريما  وقد عاف ذلّ الشقا والهوان
وطـوبى لعنز يضلل جـــــــــــنـدا      ويخـدع أحـلاســــه بالأمـان
والكلـب يهجـر طبع النبـــــــــــــــــــــاح ويهوى النمـيـمة بالطيــران
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، إن الله لا يحبّ كل خوان  كفور". الحج:38.
  أيها المسلمون: لقد آل الشجعان عن أنفسهم، وبذلوا ما في وسعهم، بعد ما بناهم الإسلام على فضائله ، وطبعهم على أخلاقه، وهيأهم للإستخلاف في الأرض، وفرح المؤمنون في مثل يومنا هذا، بنصر الله. "ينصر من يشاء وهو الـــعزيز الرحيم".
 اللهم زدنا ولا تنقصنا، و أكرمنا ولا تهنا...... آمين .

الخطبة الثانية
     الحمد لله رب العالمين . وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
   أما بعد، فاتقوا الله - عباد الله -وكونوا خير خلف، لخير سلف، سيروا على درب الأُلى الذين ساروا على نهج الهدى، وتدربوا على التضحية والفداء. صلوا الحاضر بالماضي، لتبلغوا أرفع مدارج العز في العاجلة، وخير منازل المقرّبين في العقبى .
   عباد الله: "إن الله وملائكته يصلون على النبي، "يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما". اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم أدم عليه الفتح والنصر، ودمّر من أراده بسوء يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد صفوفنا، وأصلح قادتنا، واجمع كلمتنا على الحق يا رحيم. اللهم انصر إخواننا في فلسطين، وكن مع جميع المستضعفين، ودمر اليهود وسائر المفسدين. اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، وقنا الزلازل والمحن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم وفّق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

23 يونيو 2012


  الموضوع: وصيتي لابنتي بمناسبة زواجها..
بسم الله الرحمن الرحيم
        الحمد لله الذي لم يزَل في قدره علِيًّا، ولم يكن قطّ له سميًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} [الرعد:38]، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله أكملُ النّاس إيمانًا وأخلصُهم قصدًا ونيّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أولي الأخلاق السّامية والصّفات السّنية، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
    أما بعد، فالوصية هي منهج رباني في القرآن الكريم، وسنة للأنبياء الذين وصوا أبناءهم، وهي عادة متبعة عند البشر يقدّمون فيها خلاصة تجاربهم لمن يحبون من الأبناء والبنات طمعا في أن يستفيدوا مما اكتسبوه من الخبرات، فقد روي عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا زفوا امرأة على زوجها يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقه). وأوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ابنته فقال:( إياك والغيرة ، فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل فإنّه أزين الزينة، وأطيب الطيب الماء).  وكما قالت أمامة بنت الحارث لابنتها أم إياس: الوصية لو تركت لفضل أدب، تركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل. .
واقتداء بمن سبق أقول لك: أوصيك ـ بنيتي ـ بتقوى الله عز وجل فإن من اتقى الله وقاه، ومن شكره زاده. " بارك الله لكِ .. وبارك عليكِ .. وجمع بينكما على خير "
بنيتي..  يَعِزّ عليَّ وعلى مَن في البيت الذي فيه نشأت. فراقك وبعدك، وسيحزننا غياب صوتك وحركاتك وتعليقاتك الأنيسة، وسنفقد خدماتك الكثيرة النابعة من قلبٍ ملؤه الحب والود والنقاء والصفاء. ولكن تلك هي سنة الحياة. . وإن مما يعَزِّينا في ذلك كله تخيلنا وكأن الكون كله هذه الأيام يشاركك الأفراح، وكلّ الأهل والأحباب يشاطرونك الآمال، فهنيئا لك . . هنيئا بما هيأ الله لك.. 
كل قلبٍ صار يخفق بدعاءٍ في السجود .. رب بارك ووفق واجعل الآتي سعود
 بنيتي ها أنت تفارقين الجو الذي فيه نشأت وخلفت العشّ الذي فيه درجت، إلى بيت لم تعرفيه وقرين لم تألفيه. فاعلمي أن  الإسلام بنى الأسر على دعامتين من العدل والحب، لا ينبع من الحياة حياةٌ إلا منهما، ولا يستقيم شأنٌ إلا بهما، ويتضح هذا من الغاية التي بينها الله تعالى من الزواج فقال: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة". فطاعة المرأة لزوجها فرضُ عينٍ على كل امرأة ذات زوج، ثبت ذلك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الله يريد لنا السعادة، وهذا سرها ومفتاحها، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت).  وقال: (ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ الودود الولود، التي إذا ظُلمت قالت: هذه يدي في يدك لا أذوق غمضًا حتى ترضى).
بنيتي عليك بتقوى الله، والصبر، فقد جعلك الله أسيرة بين يدي زوجك، فإن أحسن إليك فهو واجبه وهو مأجور على ذلك، وإن أساء وقصر، فعليك بالصبر؛ فإن صاحب الأمر الذي أسَرَك بين يديه هو الله الذي لا إله إلا هو، وهو الذي يقدر تعبك وجهدك فسيجازيك خير الجزاء إن شاء الله.
ومما حفظنا من وصايا الأولين: "كوني له أرضا مطيعة يكن لك سماء، وكوني له مهادا يكن لك عمادا. واحفظي سمعه وعينه فلا يشم منك إلا طيبا ولا يسمع منك إلا حسنا و لا ينظر إلا جميلا ..) واسمعي معي قول الشاعر وهو يقول لزوجته:
خذي مني العفو تستديمي مودتي   و لا تنطقي في ثورتي حين أغضب
ولا تكثري الشكوى فتذهب بالهوى   فيأباك قلبي والقلوب تتقلب.
اعملي على تنفيذ أوامر زوجك بكل سرور وأدب وحب، وقومي بذلك قربة إلى الله واحتسبي الأجر عنده عسى أن يثيبك على ذلك الجنة. عاملي أهله بالحسنى، واعملي جاهدة على إكرامهم والإحسان إليهم وعدم التطاول عليهم، طاعةً لله ولزوجك ، فكل ذلك من حسن التبعل الذي جاء ذكره في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.  
كوني له ولأهله عونا في الشدائد والرخاء, يكن لك كما تحبين. فإن الوفاء يبعث على الوفاء، كوني عند موقع نظره فيما يحب منك في دينه ودنياه. . ساعديه على إرضاء والديه وأقاربه تعظمي في أعينهم ويقفون لجانبك إذا لزم. كوني سريعة الرضا إذا استرضاك فبذلك تملكين عليه قلبه ويدل ذلك منك على حسن تربيتك في أهلك..
تذكري بنيتي ـ دائما ـ أن لا غالب ولا مغلوب بين الزوجين, فالتسامح والود والتحمّل سرُّ السعادة الزوجية.. لأن التسامح خلق فاضل فوق درجة الحق والقصاص، قال تعالى: (وأن تعفوا أقرب للتقوى). ولا تصغي لأحد ولو كان من أقرب الناس إليك بما يفسد عليك حياتك الزوجية، لأن العلاقة الزوجية فوق أي اعتبار، وإذا التبس عليك أمر جعلك في حيرة من أمرك, فاستشيري أهل التقوى والصلاح ـ أهل الرأي والرويةـ فإن المشورة طريق الخلاص وهي شأن العقلاء قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم).
واعلمي ـ بنيتي ـ إن السعادة الحقيقية لا بد أن تكون في الدنيا والآخرة، فلا معنى لسعادة في الدنيا دون الآخرة؛ لأن هذا معناه أنه مهما تمتع الإنسان في الدنيا فإنّ غمسة واحدة في جهنم تنسيه كل شيء، فماذا استفاد؟ لا شيء.. لقد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. فَاتَّق اللهَ، وَاعلَمِي أَنَّ بِالزَّوَاجِ تُوضَعُ لَبِنَةٌ جَدِيدَةٌ فِي بِنَاءِ الصَّرْحِ الاجتِمَاعِيِّ؛ بِهَا يَتَدَعَّمُ بُنْيَانُهُ، وَتَقْوَى أَركَانُهُ. أَلاَ واحْذَرِي مِنْ كُلِّ مَا يُوهِنُ هَذَا الصَّرْحَ، وَالتَزِمي َبما يُحقِّقُ لِبَيْتِكِ الاستِقْرَارَ؛ وَيَضْمَنُ لِلزَّوَاجَ الدَّوَامَ وَالاستِمْرَارَ. فاجتهدي - أحسن الله إليك – بكل وسيلة دينية أو دنيوية مباحة؛ تَجْنِ السعادة وَتَبْنِ بيتك الكريم.
    بنيتي على عجالة هذا ما استطعت جمعه ولولا  تيسير الله ما سطرته، وهو سبحانه يوفقني ويوفقك. أسأل الله تعالى الذي رفع السماء بلا عمد والذي أضحك وأبكى وخلق الزوجين الذكر والأنثى، أن يديم أفراحك وسعادتك، وأن يملا حياتك بهجة وحبورًا، وفرحة وسرورًا، وأن يرفع رأسي ورأس عائلتك بك، وأن أراك ناجحة في حياتك ومع زوجك، وغدًا ناجحة بين أولادك. وأسأل الله لي ولك السلامة من حقوق خلقه، والإعانة على أداء حقه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله. 
    نفعني الله وإياك بما قلت وأوصيت، وأستغفر الله لي ولك من كل ذنب وخطيئة، فاستغفريه إنه هو الغفور الرحيم. والحمد لله رب العالمين.

19 يونيو 2012


الموضوع: مسيرات احتجاج.. أم اجتياح؟   

                                              الخطبة الأولى
    الحمد لله .. الحمد لله الذي له الجلال والجمال والكمال، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وهو الكبير المتعال، أنعم على خلقه بشرعه، وجعل القلوب مخاطباتٌ بوحيه، أحمده – سبحانه – وهو للحمد أهلٌ ،وأسأله العفو والصفح وهو ذو المنّة والفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه وصفاته وأفعاله وخيراته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،أشرف رسله وخير برياته، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه في غدوات الدهر وروحاته.  
   أما بعد، يا عباد الله: اتقوا الله تعالى – حق التقوى ، وأخلصوا له في السر والنجوى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ".
   أيها المسلمون: ليس الدين محضَ صلاةٍ وصيامٍ، وتلاوةٍ وتسبيحٍ، وحجٍّ وصدقةٍ، وغيرِ ذلك من عبادة بدنية أو مالية فحسب. ولكنه طاعة لله فيما أمر ونهى. وتركُ الذنوب واجتنابُ المعصية، أحبُّ إلى الله من عبادة الطائفين والعاكفين والركع السجود.
    لقد عَلمتم- يا عباد الله ـ ما جاء في الظلم من الوعيد الشديد، وأن حقوق الناس عند الله في ديوان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.  وإذا علمتم أن الدينَ فعلٌ وتركٌ، وعملً وكفٌّ. وتأملتم نصوص الكتاب والسنة، وجدتُّم أن الأوامرَ محضَ تعبُّدٍ وتقربٍ إلى الله الغني عما سواه، مع أنها لا تخلو من مصلحة دنيوية عاجلة، ولأجر الآخرة أكبر، و ثوابها أعظم. أما النواهي فإنها لم تشرّع إلا ليسودَ الأمن، ويُحفظَ النظام، وتحيا الفضيلة، وتُصانَ الحقوق والأموال.  قال صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ". رواه البخاري عن عبد الله ابن عمرو.
    فهذا الحديث ـ أيها المسلمون ـ يبيّن أنه لا يتمّ إسلامُ مدّعٍ إلا بكفِّ الأذى عن الناس، وتركِ ما حرم الله. ولا شك أن المرء قد يعتدي على غيره بعينه أو أذنه أو رجله، أو فرجه. ولكن أكثر ما يكون الأذى باليد، التي هي آلة الفعل، واللسان الذي هو آلة القول. قال تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا".الأحزاب:58.
  إن دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم عند الله مكرَّمة محترمة، لا يحل سفكها أو انتهاكها أو إتلافها، إن ذلك يُعَدُّ في الإسلام فسوقا و كفرا.
   والإنسان عرضة للشيطان- إلا من عصمه الله- وقد يحمله الغضب أو الجهل أو الحمق لأقل شيء على قتل أخيه المسلم أو جرحه أو إتلاف ماله، ثم بعد ذلك يندم ولات حين مندم .
ليس الشجاع الذي يحمي فريسته عند النِّزال ونار الحرب تشتعلُ
لكن من غـضّ طرفا أو ثنَى قدماً   عن الحرام فذاك الدّارِع البطلُ
   أيها المسلمون: إنّ هذا الحراك الإجتماع، بل إنّ هذه الإعتداءات على السِّلم والأمن، وتخريب الأملاك وتدمير المنشآت التي نسمعها هنا وهناك داخل وطننا الحبيب.  أقول: إن هذه المظاهرات والمسيرات وما فيها من المفاسد الكثيرة، والإضرار بالأنفس والممتلكات، بل ودخول ذوي الأغراض الفاسدة فيها، ما هو معروف لكل ذي بصيرة، لمِمّا يقضي بحرمتها، وعدم المشاركة فيها.
  هل هذه المظاهرات والمسيرات احتجاج على غلاء الأسعار أم اجتياح على الأخضر واليابس؟.
    يا رعاكم الله: إن هذه المظاهرات ماهي إلا اعتداء على أموال المسلمين وحرماتهم،  وهي محرّمة حرمة شديدة. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا". ولأنه ـ يا عباد الله ـ: "دَرْءُ المفاسد أولى من جَلْبِ المصالح". وهذه قاعدة فقهية عظيمة، تدبّروها، تدركوا أن الشارع اعتنى بالمنهيات أشدّ من اعتنائه بالمأمورات. لذا أفتى بحرمة أمثال هذه المظاهرات والمسيرات كبار أهل العلم في هذا العصر. كالشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، والشيخ المحدث الألباني، والشيخ الفقيه محمد بن صالح العثيمين رحم الله الجميع.
   لأن الإنكار – يا عباد الله – على غلاء الأسعار أو البطالة أو غير ذلك بهذه الصورة، تهييجٌ للناس، وتدميرٌ للممتلكات، وتخريبٌ للمنشآت، وترويعٌ للآمنين. وتسهيلٌ لدخول بعض اللصوص والمنحرفين في هذه المسيرات للسرقة والنهب وتخريب الكثير من الممتلكات، بالإضافة إلى نشاط المرجفين ودخول المخربين في مثل هذه الأحداث، وهم يندسون في الصفوف لإحداث الفساد في الناس، ولضرب بعضهم ببعض.
  ألا إنّ سنة الفساد واحدة في كل زمان ومكان، والإندفاع نحو الشرّ لإحداث الفتنة من أوصاف من عناهم ربّ العزة بقوله: "لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ". التوبة: 10.
      عباد الله: إن كل متابع منا رأى ما حصل من مظاهرات حاشدة صاخبة –سابقة- وما كان لها من تداعيات فظيعة عظيمة، يستحضر أن الإسلام شرع بل أوجب على الأمة إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله. فإذا  كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله و رسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله.
   نعم.. لقد كفل الإسلام حريِّة الرأي والتعبير بمفهومها الإسلاميّ، وحرية الرأي والتعبير تعني: تمتّع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق، وإسداء النصيحة في كل أمور الدين والدنيا، فيما يحقق نفع المسلمين ويصون مصالح كلٍّ من الفرد والمجتمع، ويحفظ النظام العام، وذلك في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير، إلاَّ أنَّه قد حرص على عدم تحريرها من القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها، وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ويرضي الخالق - جل وعلا -، فهناك حدود لا ينبغي الإجتراء عليها، وإلا كانت النتيجة هي الخوض فيما يغضب الله، أو يلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء، ويخل بالنظام العام وحسن الآداب.
   فهل ترضى وتحب ـ أيها المسلم ـ أن يُدَمَّرَ متجرك، أو تُكَسَّرَ سيارتك، أو تُعَطَّلُ مصالحك؟.  إن صادق الإيمان لا يرضى ذلك لنفسه ولا يرضاه لغيره..
   فاتقوا الله تعالى ـ يا عباد الله ـ وحققوا إيمانكم بتحقيق ما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم طلبا وخبرا، فإن السعادة لا تحصل إلا بامتثال أمر الله ورسوله، والسير على نهجه وطريقه، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره:" الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ..».  هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسلم أخو المسلم وأمر بذلك في قوله: "وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخوانا". رواه الإمام مالك.
  اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، واحفظ علينا ديننا وثبتنا عليه إلى الممات، فإنه عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. آمين...أقول قولي..
الخطبة الثانية
   الحمد لله الذي شرح صدور الموفّقين بألطاف بره وآلائه، ونوّر بصائرهم بمشاهدة حِكَمِ شرعه وبديع صنعه ومحكم آياته، وألهمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها، فسبحانه من إله عظيم، وتبارك من رب واسع كريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه.
   أما بعد : أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن سعادة الدنيا والآخرة بصلاح القلوب وانشراحِها، وزوالِ همومِها وغمومِها وأتراحِها، فألزموا طاعة الله، وطاعة رسوله، تدركوا هذا المطلوب، واذكروا الله كثيرا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب. واحمدوا ربكم على هذه النعم، التي لا تستطيعون لها عدّا ولا شكورا، واستغفروه من تقصيركم، وتوبوا إليه إنه كان عفوا قديرا، وسلوه أن يحفظ عليكم دينكم وأن يثبتكم على الحق إلى الممات، وأن يحييكم في عافية مما أحاط بكم من الشرور والأمور المهلكات، إنه قريب مجيب الدعوات.
   قال صلى الله عليه وسلّم مخبِرا عمّا يقع عند فساد الزمان:" إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ". يحذر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون لأحد من أمته ضلع في الفتن.  فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ. قَالَ: "يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟!".
ألا فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واستقيموا على نهج الهدى، فمدار السعادة في الدارين، دين قويم وخلق متين.
   اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وآمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله في نفسه ورد كيده في نحره، واجعل دائرة السوء عليه يا رب العالمين، اللهم ادفع عنا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار، اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم أصلح أحوال المسلمين. اللهم احقن دماءهم وآمنهم في أوطانهم، وأرغد عيشهم، واجمعهم على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك ويُهدَى فيه أهل معصيتك، ويُأمرُ فيه بالمعروف ويُنهَى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، وصل اللهم وسلّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

الموضوع: الجزيرة (نت)
الخطبة الأولى
       الحمد لله الذي أعلى كرامة بني الإنسان، وجعلهم خلفاء في الأرض، سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وأمرنا بالتسامح والتراحم والإخاء، ونهانا عن التدابر  والظلم وسفك الدماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما قضاه وأراده، لا معقّب لحكمه . وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، بشيرا ونذيرا ، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.
    أما بعد، فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم،  وشرّ الأمور ما أحدث على غير هدى من الله أو سنة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم. "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله".
    عليكم بتقوى الله – يا عباد الله – وبما كان عليه الصدر الأول، ففي هديهم الرشاد،  وفي نهجهم الفلاح والسداد، ومن حاد عن مسلكهم تقاذفته الشبه والأهواء،  وارتطم بالفتن وانزلق في المهاوي.
     أيّها المسلمون: قال الله تعالى: "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل، إنه كان منصورا". الإسراء:33.
 قال الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله في تفسير هذه الآية: "إن النهي هنا جاء صريحا عن قتل النفس، وأكّد مقتضى النهي بوصف النفس بقوله: "التي حرّم الله"، والتحريم هو المنع، فحرّم الله معناه: منع الله. والتقدير: حرّم الله قتلها، فحذف بدلالة "لا تقتلوا" عليه، فالمنهي عنه هو القتل، والمحرّم هو القتل، فتأكيد المنع بالنهي والتحريم، وفي إسناد التحريم إلى الله بعثٌ للنفوس على الخشية من الإقدام على المخالفة، وتنبيه لها على ما يكفُّها عن الإقدام، وهو استشعار عظمة الله" اهـ (مجالس التذكير).
   عباد الله: "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق"،  هذا قول الله. حرّم الله،  جعل لها حرمة ومنعة، فلا يجوز التعدّي عليها.  وقال تعالى: "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا...إلى قوله:"..    وأعدّ له عذابا عظيما". النساء : 92-93.
قال الألوسي رحمه الله: "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا"، لأن الإيمان زاجر له عن ذلك، "إلا خطأ"، فإنه ممّالا يكاد يحترز عنه بالكلية، وقلما يخلو المقاتل عنه. وانتصابه -أي: خطأً- إما على الحال، أي ما كان له أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلا حال الخطأ، أو على أنه مفعول له، أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ، أو على أنه صفة للمصدر، أي إلا قتلا خطأ، فالاستثناء في جميع ذلك مفرغ،  وهو استثناء متصل على ما يفهمه بعض المحققين.  ولا يلزم جواز القتل الخطأ شرعا حيث كان المعنى: أن من شأن المؤمن ألا يقتل إلا خطأ". روح المعاني الجزء الخامس الصفحة112.
 وقال السيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن، هاتان الآيتان: "تتناول أربع حالات من الأحكام. ثلاث منها من حالات القتل الخطأ، وهو الأمر المحتمل وقوعه بين المسلمين في دار واحدة – دار الإسلام - أوفي ديار مختلفة بين شتى الأقوام،  والحالة الرابعة حالة القتل العمد، وهي التي يستبعد البيان القرآني وقوعها. فليس من شأنها أن تقع، إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها، ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمداً".  ظلال القرآن، الجزء الثاني الصفحة735.
    نعم- أيها المسلمون – ذلك لأن الإنسان بناء شامخ بناه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته المقربون.
     لعمري.. إن قتل النفس بغير حق،  جريمة ما أشدّ شناعتها؟. كيف يقتل الإنسان أخاه؟. إن الذئب لا يفترس الذئب، إنها دناءة وخسّة.  وإلى ذلك أشار القرآن وهو يتحدث عن قصة قابيل وهابيل، حيث يتبين فيها سمو الحيوان الأعجم، على حطّة الإنسان الوضيع،  يوم أن طوّعت "له نفسه قتل أخيه فقتله، فأصبح من الخاسرين".
    بعد هذا أقول: ما بال أولئك في قناة "الجزيرة نت" -الموقع الإلكتروني- ظلت منهم عقولهم، وضاعت طباعهم، ورضوا بأن يكونوا أبواقا ينفخ من خلالها المغرضون، ومطايا يمتطيها الحاقدون، يجرون هذا الإستبيان؟.
أجب بنعم أولا: هل توافق على تفجيرات القاعدة في الجزائر؟.
استهانوا بشعورنا، وتهجّموا على كرامتنا، ما راقبوا فينا إلاًّ ولا رحمة.. لا اله إلا الله.. وإليه المشتكى !.
 إن الله يقول:" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق". فمتى كان حكم الله يخضع لرأي، أو تعقيب، أو سبر للآراء؟. إن هذا لعمل أخرق، ونشاز ممقوت!.
إقرأوا الآيات الثلاث:(153،152،152) من سورة الأنعام، وهي تعلم وترشد، وتأمر باسترعاء السمع " قل تعالوا اتل.." . وقد انقسمت الأحكام فيها إلى ما به إصلاح الحالة الاجتماعية بين الناس، وإلى ما به حفظ نظام تعامل الناس بعضهم مع بعض، وأخيرا إلى تباع صراط الله المستقيم.  وقد ختم كل قسم من هذه الأقسام بالوصاية بقوله تعالى: "ذلكم  وصاكم به" ثلاث مرات. فالنهي عن الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل الأولاد وقتل النفس، قال تعالى: "ذلكم  وصاكم به لعلكم تعقلون". وفي قرب مال اليتيم وإيفاء الكيل والميزان والعدل والوفاء بالعهد، قال تعالى: "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون". لنسأل سؤالا، لماذا في الأحكام الأولى قال: "لعلكم تعقلون". وفي الثانية قال سبحانه :"لعلكم تذكرون"؟.
     ذلكم ـ يا عباد الله ـ : لأن المحرّمات المذكورة، قبيحة في العقول، يحتاج في زمّ النفس عنها إلى زاجر من عقل، يدفع الهوى، لا إلى كتاب أو درس أو رأي أو استبيان، "لعلكم تعقلون"،  أي تصيروا ذوي عقول . فملابسة هذه المحرمات "الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس"، ينبئ عن خساسة عقل، حيث ينزل ملابسوها منزلة من لا يعقل، فذلك رُجي أن يعقلوا !.  فمن لديه أدنى مسكة من عقل، يدرك أن عقوق الوالدين حرام ، ومن في عقله أثارة من فهم، يدرك أن قتل النفس بغير حق حرام !.
إن نبي الله  موسى عليه وعلى نبينا السلام، ارتعد فزعا،  وقال مستنكرا لصاحبه: "أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا"؟. الكهف:74. لقد جئت شيئا تنكره العقول السليمة،  والفطر المستقيمة.
    فيا رعاكم الله، وهداني و إياكم للرشاد؛ اعلموا: أنه لا يكمل إيمان المؤِمن، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره لأخيه ما يكره لنفسه. فاتقوا الله، و راعوا إخوانكم، واعلموا أننا قلنا ذات يوم: نعم للسّلم والمصالحة، وهذا لا ينازعنا فيه إلا مريض لم ينقه، أو مغرِض لم يفقه، وأذكركم بقول أحد علماء الجزائر، العالم الرباني سيدي عبد الرحمن الثعالبي، صاحب تفسير الجواهر الحسان رحمه الله إذ يقول:
إن الجزائر في أحوالهـا عـجب            لا يدوم للنـاس فيها مكروه
ما حل عسرٌ بها أو ضاق متّسع       إلا و يسرٌ من الرحـمن يتلوه
 وأنتم- يارعاكم الله- اعلموا أننا إذا كنا في يوم من الأيام في حاجة إلى التضامن والتعاون والتآخي فيما بيننا، وإلى تلمّس طريق الهدى والصلاح. فإننا في هذه الفترة أشد ما نكون إلى تلمس ذلك، لنصل إلى ما نصبوا إليه من الحفاظ على ديننا ووطننا وكرامتنا.
وفقنا الله إلى ذلك. وهدانا سبيل الرشاد، أقول قولي...


 الخطبة الثانية
     الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين،  وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه  وعلى آله وأصحابه وسلم كثيرا إلى يوم الدين.
    أما بعد ؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أناس من جهينة، يقال لهم الحُرُقَات، قال: فأتيت على رجل منهم، فذهبت أطعنه، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فقتلته. فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال: "أقتلته،  وقد شهد أن لا إله إلا الله؟. قلت: يا رسول الله، إنما فعل ذلك تعوّذا، قال: فهلا شققت عن قلبه؟". متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشير- بإثبات الياء وهو نفي بمعنى النهي، وجاء بغير الياء بلفظ النهي- أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان أن ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار". متفق عليه.
     عباد الله، إن لم يكن غير هذا.. فكفى..!  "فهل من مدّكر"؟. أما الجزائر، فالله يعمرها بدوام الذكر، ويأمنها من كل مكر،  إن شاء الله.
    اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك. ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك. ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام. اللهم هيئ لأبناء وبنات الجزائر أمرا رشدا، اللهم ردّهم إلى دينك ردّا جميلا، ومن أرادنا وأرادهم بسوء، فردّ كيده في نحره يا رب العالمين، اللهم ووفق وليّ أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.