19 يونيو 2012


الموضوع: مسيرات احتجاج.. أم اجتياح؟   

                                              الخطبة الأولى
    الحمد لله .. الحمد لله الذي له الجلال والجمال والكمال، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وهو الكبير المتعال، أنعم على خلقه بشرعه، وجعل القلوب مخاطباتٌ بوحيه، أحمده – سبحانه – وهو للحمد أهلٌ ،وأسأله العفو والصفح وهو ذو المنّة والفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه وصفاته وأفعاله وخيراته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،أشرف رسله وخير برياته، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه في غدوات الدهر وروحاته.  
   أما بعد، يا عباد الله: اتقوا الله تعالى – حق التقوى ، وأخلصوا له في السر والنجوى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ".
   أيها المسلمون: ليس الدين محضَ صلاةٍ وصيامٍ، وتلاوةٍ وتسبيحٍ، وحجٍّ وصدقةٍ، وغيرِ ذلك من عبادة بدنية أو مالية فحسب. ولكنه طاعة لله فيما أمر ونهى. وتركُ الذنوب واجتنابُ المعصية، أحبُّ إلى الله من عبادة الطائفين والعاكفين والركع السجود.
    لقد عَلمتم- يا عباد الله ـ ما جاء في الظلم من الوعيد الشديد، وأن حقوق الناس عند الله في ديوان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.  وإذا علمتم أن الدينَ فعلٌ وتركٌ، وعملً وكفٌّ. وتأملتم نصوص الكتاب والسنة، وجدتُّم أن الأوامرَ محضَ تعبُّدٍ وتقربٍ إلى الله الغني عما سواه، مع أنها لا تخلو من مصلحة دنيوية عاجلة، ولأجر الآخرة أكبر، و ثوابها أعظم. أما النواهي فإنها لم تشرّع إلا ليسودَ الأمن، ويُحفظَ النظام، وتحيا الفضيلة، وتُصانَ الحقوق والأموال.  قال صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ". رواه البخاري عن عبد الله ابن عمرو.
    فهذا الحديث ـ أيها المسلمون ـ يبيّن أنه لا يتمّ إسلامُ مدّعٍ إلا بكفِّ الأذى عن الناس، وتركِ ما حرم الله. ولا شك أن المرء قد يعتدي على غيره بعينه أو أذنه أو رجله، أو فرجه. ولكن أكثر ما يكون الأذى باليد، التي هي آلة الفعل، واللسان الذي هو آلة القول. قال تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا".الأحزاب:58.
  إن دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم عند الله مكرَّمة محترمة، لا يحل سفكها أو انتهاكها أو إتلافها، إن ذلك يُعَدُّ في الإسلام فسوقا و كفرا.
   والإنسان عرضة للشيطان- إلا من عصمه الله- وقد يحمله الغضب أو الجهل أو الحمق لأقل شيء على قتل أخيه المسلم أو جرحه أو إتلاف ماله، ثم بعد ذلك يندم ولات حين مندم .
ليس الشجاع الذي يحمي فريسته عند النِّزال ونار الحرب تشتعلُ
لكن من غـضّ طرفا أو ثنَى قدماً   عن الحرام فذاك الدّارِع البطلُ
   أيها المسلمون: إنّ هذا الحراك الإجتماع، بل إنّ هذه الإعتداءات على السِّلم والأمن، وتخريب الأملاك وتدمير المنشآت التي نسمعها هنا وهناك داخل وطننا الحبيب.  أقول: إن هذه المظاهرات والمسيرات وما فيها من المفاسد الكثيرة، والإضرار بالأنفس والممتلكات، بل ودخول ذوي الأغراض الفاسدة فيها، ما هو معروف لكل ذي بصيرة، لمِمّا يقضي بحرمتها، وعدم المشاركة فيها.
  هل هذه المظاهرات والمسيرات احتجاج على غلاء الأسعار أم اجتياح على الأخضر واليابس؟.
    يا رعاكم الله: إن هذه المظاهرات ماهي إلا اعتداء على أموال المسلمين وحرماتهم،  وهي محرّمة حرمة شديدة. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا". ولأنه ـ يا عباد الله ـ: "دَرْءُ المفاسد أولى من جَلْبِ المصالح". وهذه قاعدة فقهية عظيمة، تدبّروها، تدركوا أن الشارع اعتنى بالمنهيات أشدّ من اعتنائه بالمأمورات. لذا أفتى بحرمة أمثال هذه المظاهرات والمسيرات كبار أهل العلم في هذا العصر. كالشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، والشيخ المحدث الألباني، والشيخ الفقيه محمد بن صالح العثيمين رحم الله الجميع.
   لأن الإنكار – يا عباد الله – على غلاء الأسعار أو البطالة أو غير ذلك بهذه الصورة، تهييجٌ للناس، وتدميرٌ للممتلكات، وتخريبٌ للمنشآت، وترويعٌ للآمنين. وتسهيلٌ لدخول بعض اللصوص والمنحرفين في هذه المسيرات للسرقة والنهب وتخريب الكثير من الممتلكات، بالإضافة إلى نشاط المرجفين ودخول المخربين في مثل هذه الأحداث، وهم يندسون في الصفوف لإحداث الفساد في الناس، ولضرب بعضهم ببعض.
  ألا إنّ سنة الفساد واحدة في كل زمان ومكان، والإندفاع نحو الشرّ لإحداث الفتنة من أوصاف من عناهم ربّ العزة بقوله: "لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ". التوبة: 10.
      عباد الله: إن كل متابع منا رأى ما حصل من مظاهرات حاشدة صاخبة –سابقة- وما كان لها من تداعيات فظيعة عظيمة، يستحضر أن الإسلام شرع بل أوجب على الأمة إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله. فإذا  كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله و رسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله.
   نعم.. لقد كفل الإسلام حريِّة الرأي والتعبير بمفهومها الإسلاميّ، وحرية الرأي والتعبير تعني: تمتّع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق، وإسداء النصيحة في كل أمور الدين والدنيا، فيما يحقق نفع المسلمين ويصون مصالح كلٍّ من الفرد والمجتمع، ويحفظ النظام العام، وذلك في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير، إلاَّ أنَّه قد حرص على عدم تحريرها من القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها، وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ويرضي الخالق - جل وعلا -، فهناك حدود لا ينبغي الإجتراء عليها، وإلا كانت النتيجة هي الخوض فيما يغضب الله، أو يلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء، ويخل بالنظام العام وحسن الآداب.
   فهل ترضى وتحب ـ أيها المسلم ـ أن يُدَمَّرَ متجرك، أو تُكَسَّرَ سيارتك، أو تُعَطَّلُ مصالحك؟.  إن صادق الإيمان لا يرضى ذلك لنفسه ولا يرضاه لغيره..
   فاتقوا الله تعالى ـ يا عباد الله ـ وحققوا إيمانكم بتحقيق ما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم طلبا وخبرا، فإن السعادة لا تحصل إلا بامتثال أمر الله ورسوله، والسير على نهجه وطريقه، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره:" الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ..».  هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسلم أخو المسلم وأمر بذلك في قوله: "وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخوانا". رواه الإمام مالك.
  اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، واحفظ علينا ديننا وثبتنا عليه إلى الممات، فإنه عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. آمين...أقول قولي..
الخطبة الثانية
   الحمد لله الذي شرح صدور الموفّقين بألطاف بره وآلائه، ونوّر بصائرهم بمشاهدة حِكَمِ شرعه وبديع صنعه ومحكم آياته، وألهمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها، فسبحانه من إله عظيم، وتبارك من رب واسع كريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه.
   أما بعد : أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن سعادة الدنيا والآخرة بصلاح القلوب وانشراحِها، وزوالِ همومِها وغمومِها وأتراحِها، فألزموا طاعة الله، وطاعة رسوله، تدركوا هذا المطلوب، واذكروا الله كثيرا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب. واحمدوا ربكم على هذه النعم، التي لا تستطيعون لها عدّا ولا شكورا، واستغفروه من تقصيركم، وتوبوا إليه إنه كان عفوا قديرا، وسلوه أن يحفظ عليكم دينكم وأن يثبتكم على الحق إلى الممات، وأن يحييكم في عافية مما أحاط بكم من الشرور والأمور المهلكات، إنه قريب مجيب الدعوات.
   قال صلى الله عليه وسلّم مخبِرا عمّا يقع عند فساد الزمان:" إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ". يحذر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون لأحد من أمته ضلع في الفتن.  فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ. قَالَ: "يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟!".
ألا فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واستقيموا على نهج الهدى، فمدار السعادة في الدارين، دين قويم وخلق متين.
   اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وآمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله في نفسه ورد كيده في نحره، واجعل دائرة السوء عليه يا رب العالمين، اللهم ادفع عنا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار، اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم أصلح أحوال المسلمين. اللهم احقن دماءهم وآمنهم في أوطانهم، وأرغد عيشهم، واجمعهم على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك ويُهدَى فيه أهل معصيتك، ويُأمرُ فيه بالمعروف ويُنهَى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، وصل اللهم وسلّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق