17 يونيو 2012

 
الموضوع: مؤيدات ربانية في ثورة التحرير الجزائرية
الخطبة الأولى
     الحمد لله رب العالمين، سبحت الكائنات بحمده، وعنت الوجوه لعظمته ومجده،  له الحكم كله وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ناصر المجاهدين، ومبشر المؤمنين الصابرين. "ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز".  وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه. أقوى المجاهدين، وأشجع المقاتلين، ورافع لواء الحق إلى يوم الدين. اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه، الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وارض اللهم عنا معهم أجمعين.
     أيها المسلمون: آيةٌ كريمة تقرؤونها، من تأملها عَلِم عَظمة هذا الإيمان، وأدرك عٌلوَّ هِمم المؤمنين وشدّةَ صبرهم وجهادهم، وأنه لا طريق للوَهَن إليهم، ولا باب لليأس إلى قلوبهم، فهم بإيمانهم أقوياء أشِدّاء، وهم بشجاعتهم أفذاذ بُسَلاء، وهم بصبرهم وإقدامهم لا يَذِلُّون ولا يهِنُون ولا يَضعُفون، وعلى ربهم يتوكلون. قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}. [آل عمران: 45]. فالله يقول: كم من نبيّ قاتل وقاتل معه جماعاتٌ كثيرةٌ، فما وهَنوا ولا ضعُفُوا من شدّة القتل والجراحات، ولا ارتدّوا على أدبارهم، ولا تنازلوا عن مبادئهم، جاهدوا مع الضعف، وصبروا مع البلاء، وقاوموا رغم الإحباط والتخذيل، فكانوا هم المنصورون.
     أيها المسلمون، لقد تمكن رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير كفة الميزان لصالحهم، وذلك بعد عام واحد فقط من وقوع غزة أُحد، فكانت غزة بدر الآخرة التي وقعت في السنة الرابعة للهجرة، ثم غزوة الخندق "الأحزاب"، والتي وقعت في السنة الخامسة للهجرة، وأَعطى المسلمون بتوفيق الله وتأييده درسًا قاسيًا لخصومهم، كما أنهم وضعوا حدًّا للمثبِّطين والمشكّكين. ولم ييأس المسلمون لما حلّ بهم في أُحُد، لم يناموا، ولم يستكينوا، ولم يتهرّبوا من المسؤولية، ولم يستسلموا للأمنيات.
وما نيـل المطالب بالتمني ..  ولكن تؤخذ الدنيـا غِلابا
ما استعصى على قوم منال .. إذا الإقدام كان لهم ركابا
   أيها المسلمون: إن النصر لفظ من الألفاظ العَقَدية في الدين الإسلامي، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم ما يزيد عن مائة وثلاثين مرة. وهو  مُسْنَد ومنسوب إلى الله العليّ القدير، فالنصر من عند الله، والمسلمون يُنصَرون بمددٍ من الله وتأييده، وذلك حينما يَنصُرون الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، كما في قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ}[160]. وكما في قول رب العالمين في سورة الحج: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، [40]. وقوله عز وجل في سورة محمد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7].
ففي علوم الحرب وصراع القوى، يُمْكِن للخبراء العسكريين والقادة السياسيين أن يتنبؤوا بنتائج المعارك مسبقاً، وغالباً ما تصيب توقعاتهم وتوافق حساباتهم، ولا سيما مع التطور الهائل الذي تشهده التقنية الحديثة على مختلف الأصعدة وفي جميع المجالات، حيث يمكن إدخال أرقام وقياسات كِلَا طرَفَي معركةٍ ما لجهاز حاسوب، فيعطيك نتيجة فورية مفصلة بنتائجها قبل نشوبها، ولكن هذه التقنية الباهرة، تقف عاجزة كل العجز أمام إخضاع أسبابنا الخاصة كمؤمنين لحساباتهم كبشر، فحينما يكون أحد المعسكرين المتحاربين معسكر الإيمان تفشل الحسابات، بل تكون حساباتها تلك من باب العبث والدجل، لأنها تتأسّس - حينئذ - على مقدمات خاطئة أو ناقصة، لم يَحُط بها استقصاءٌ كلّي جامع.  لأن هناك أسبابا يختص بها المسلمون. إنها أسباب ربانية لا تُمنح لجنس تفضيلاً له على آخر، وإنما يختص بها أهل الإيمان أينما كانوا، وأياً كان جنسهم أو لونهم، وذلك بمقتضى ميزان العدل الإلهي، الذي لا اعتبار فيه لمعايير البشر العنصرية والمادية، والتي لا تتحيز لفريق دون آخر لمجرد الهوى، أو لحمية الجاهلية، أو للإلتقاء المصالح النفعية، فالإعتبار الوحيد في ميزان الله، هو كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.محمد: 7 .
   أيها المسلمون: وأنتم تحتفلون بهذه الذكرى، يسعدني أن أتابع معكم في خطبتي هذه ذلكم الجانب ـ الجانب الرباني ـ في الثورة الجزائرية، والذي لا يتطرق إليه الكثير من الخطباء، وهو العامل الحاسم والمؤثّر في النصر والتمكين. فثورة أول نوفمبر المجيدة، ثورة عظيمة صنعت التاريخ، وبهرت العالم، وقهرت الجبابرة، وقصرت آمال المستعمرين، وقصمت ظهور المستدمرين، وغيرت مجرى الأحداث، وأعطت لشعوب العالم دروسا عملية في الجهاد والتضحية والثبات والاستشهاد.
    إنها ثورة الفاتح من نوفمبر 1954م. يوم الاثنين الخامس من ربيع الأول 1374 هـ .. كان عدد المجاهدين الذين فجّروها على المستوى الوطني يوم انطلقت: 1200 مجاهد. وكلّ ما يملكون: 400 قطعة سلاح وقنابل تقليدية معدودة، وكان الله معهم، وكان إيمانهم به عظيما، وكان صبرهم جميلا،  فصدقهم الله وعده: {قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين }.
 أيها المسلمون: إن ثورة التحرير المباركة ثورة يجب تذاكرُها، والتذكُّرُ بها، لنعلم أن سنة الله في من خالف منهجه وحارب أولياءه معلومة، ونعلم كذلك أن جند الله هو المنصورون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فلقد كان في وقائعها من الدروس والآيات المبهرة، والدلالات المؤثرة، ما يجعل المؤمن يطير فرحا بموالاته لمولاه، ويرتعش خوفا إذا هو خالفه وعصاه.
    إن أبطال هذه الثورة الفريدة: مليون ونصف مليون من الشهداء الأبرار، وملايين اليتامى والثكالى والأرامل والمعطوبين، كُتبت أحداثها بدماء قانية غزيرة، أهرقت في ميادين المقاومة وفي المساجد وفي الجبال الوعرة، حيث كان الأحرار هناك يقاومون. ولقد سجل التاريخ صورا رائعة عن البطولات التي تُثبت بسالتهم في الجهاد،  وتبيّن مدى ما وصل إليه إيمانهم القويّ، وعقيدتهم الراسخة في ساحات القتال، لقد كتبوا مجد أمتهم وتاريخهم بأروع الملاحم البطولية.
  أيها المسلمون: إن ثورة التحرير هي بحقٍّ بيانٌ لكمال قدرة الله ونفوذ مشيئته، فكما أن لله سنناً وأسباباً تقتضى مسبباتها الموضوعة لها شرعاً وقدراً، فإن لله أيضاً سنناً أخرى لا يقع عليها علم البشر ولا تدركها أعمالهم وأسبابهم. فمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، بل وأيام الله وعقوباته في أعدائه الخارقة للعادة، كلها تدل دلالة واضحة أن الأمر كله لله، والتقدير والتدبير كله لله، وأن لله سنناً لا يعلمها بشر ولا ملك. "وما يعلم جنود ربك إلا هو". 
     وأستسمحكم في أن أذكر لكم في هذه المناسبة، بعضا من تلك السّنن والكرامات التي سجّلها بعضُ مؤرخي ثورة التحرير. ذلك لتعلموا أن جهاد الجزائريين كان من أجل العقيدة وإعلاء كلمة الله، وأن النصر لم يأت بحنكة مفاوض أو مظاهرة مساند متعاطف، أو تأييد دول الكفر والإلحاد، وإنما جاء بفضل نصرة الله تعالى للرجال الصادقين الذي تسلحوا بسلاح العقيدة والإيمان، لمجابهة قوى الشر والطغيان.
   إخواني الكرام: تعلمون أن سلاح المجاهدين كان متواضعا، وأغلبهم كان يعتمد على بنادق صيد وأسلحة تقليدية قديمة، لقد كانت كلمة السر للثورة: عقبة-خالد. وكان الهتاف الأول: الله اكبر.. وكان الله معهم، التحقوا بالجبال تلبية للنداء، ولم يسبق لهم تدريب على الرمي أو غيره، ومع ذلك كان رميهم مسددا، وكانوا يصيبون العدو المدجّج بأنواع الأسلحة المتطورة في المَقاتل، وأكثر من ذلك كانوا يواجهون الدبابات والطائرات بهذه الأسلحة المتآكلة، وكم من طائرة يُنقَل أن المجاهدين أسقطوها ببنادقهم، وكم من دبابة دمروها بقنبلة يدوية، ومن المؤكَّد أن ذلك ليس من قوة سلاحهم أو خبرتهم في الرمي، ولكنه من التأييد الرباني، كما قال عز وجل: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). ومن تلك الكرامات الباهرة والظواهر العجيبة التي كانت تحدث للمجاهدين أثناء القتال وفي حالات الشدة، نذكر:
 نزول الأمطار وتراكم السحب وانتشار الضباب، مما كان يَحُول دون مواصلة القصف الجوي والمدفعي لمواقع المجاهدين، أو يُسَه!ِل عليهم الانسحاب في حالة الحصار. قال تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ). وفي هذا يقول المجاهد محمد زروال: «وإذا تتبَّعنا الكرامات الربانية الغريبة في الثورة الجزائرية طالعتنا ظاهرة أخرى أشد غرابة، هي ظاهرة نزول المطر من السماء في غير وقته، كما وقع ذلك في غزوة بدر الكبرى. أما عن هذه الظاهرة عينها في الثورة الجزائرية فإن أمرها معروف عند المجاهدين الذين يَرَون فيها تأييدا معنويا لهم من الله تعالى، ذلك أن العدو يتوقف عادة عن الرمي عندما يُغَطي الضبابُ الأفقَ وتتراكم السحب وينزل المطر، فتتعذر إصابة الهدف بسبب عدم الرؤية الجيدة، فقد حدثني الكثير من المجاهدين الذين حضروا معركة الجرف الشهيرة، أن المطر نزل من السماء في اليوم الرابع من هذه المعركة عندما كانوا يتأهبون للانسحاب، وعندما تعذر عليهم ذلك بسبب تطويق العدو إياهم من جميع أقطارهم، عندئذ انتهز المجاهدون هذه التغطية الجوية الطبيعية فانسحبوا دون أن يكشفهم العدو". انظر كتاب الحياة الروحية في الثورة الجزائرية لمحمد زروال.
      ومن الكرامات ـ أيضا ـ سَقْي المجاهدين حين يحتاجون إلى الماء ولا ماء، ولا نتحدث عن بركة الطعام القليل الذي كانوا يتناولونه فيعطيهم قوة أعظم من قوة رجال العدو الذين كانوا يُطعَمون كما تُطعَم الأنعام بُغية السمن أو أكثر، ولكن هذه وقائع لا تخص البركة، ولكنها أمور خارقة يحدثها المولى عز وجل في وقت الشدة والحاجة. من تلك الوقائع يُذكر أن بعض المجاهدين كانوا متمركزين في صيف 1961 في جبل "شلية" بالأوراس، ونظرا لانعدام مورد الماء هناك، كانوا يرسلون يوميا قافلة من الحمير لجلب الماء، ولكنَّ همّا كبيرا كان يُتعِبُهم، وخوفا كبيرا كان يَتملّكُهم من أن تَكتشَف تلك القوافل طائراتُ العدو التي تحوم حول الموقع كل صباح، وفي يوم من أيام ذلك الصيف الحارّ تغيّر الجوّ وتلبّدت الغيوم ونزل مطر غزير لم يكد يتوقف، حتى انفجر ينبوع قرب المركز كفاهم شر تنظيم تلك القافلة، وقد سقوا منه أكثر من عشرين يوما.(نفس المرجع).
    ومن الكرامات الواقعة أن يُيَسّر الله تعالى من الأسباب ما يجعل العدو ينصرف عن أماكن تَحصُّن المجاهدين واختبائهم، ومن ذلك قصة ذلك الثعبان العظيم الذي قبع في فوهة كهف وصل إليه العدو بدلالة بعض الخونة، وقع ذلك في عام 1957م ولقد كان ذلك في الكهف الواقع في جبل "السراق" بالقرب من "عين الطاية" بولاية قالمة، والذي كان بداخله أسلحة وذخائر حربية ومعدات وأطعمة وأشياء أخرى كثيرة مما يحتاج إليه المجاهدون، وقد أعدّ العدو عدته لمحاصرة الكهف والهجوم على من فيه، وبعد القصف المدفعي تقدم المشاة نحوه، فلما اقتربوا من فوهته انتصب لهم ثعبان عظيم كأنه يريد منعهم من الدخول، فلما رأوا ذلك رجعوا خائبين، دون محاولة اقتحامه وهم يقولون لو كان يتردّد إليه المجاهدون حقّا لما اتّخذ منه ذلك الثعبان ملجأ يأوي إليه. (نفس المرجع).
أيها المسلمون: ما ذكرته وما أذكره إنما هو تبليغ لقول المجاهد الشاعر:
صرخة الأوطان من ساح الفدا  .. اسمعوها واستجبيوا للندا
واذكروها في دماء الشهــــــــداء.. واقراؤها لبني الجـــيل غدا
   جعلني الله وإياكم ممن يعتبرون ويتعظون، أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
   الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربي ويرضى. وأصلى وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، ونورًا للدنيا أجمعين، هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
     أيها المسلمون: ذلكم الله ربكم سبحانه وتعالى، يدافع عن الذين آمنوا، هو الذي بيده مقادير كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فكما كان يصرف العدو عن المجاهدين، فإنه قد كان يصرف نيرانهم فلا تصيب الهدف، بل ربما عطّل نيرانهم عن التأثير في أجساد المجاهدين، فهو سبحانه إذا أراد أمرا إنما يقول له كن فيكون، قال عز وجل: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ). وفي هذا السياق نقل عن أحد المجاهدين بأموالهم من عرش "الْوْهَايْبَة" بضواحي مدينة "سعيدة" كان قد جعل من بيته ملجأ وملاذا للمجاهدين، فداهم جنود الاستعمار بيته يوما واعتقلوه، ولما طالت مدة التعذيب والاستنطاق ولم ينطق بشيء، قادوه إلى مكان بعيد ألقوه فيه، وأطلقوا عليه وابلا من الرصاص وتركوه ظنا منهم أنهم قد تخلصوا منه، ولكن الله تعالى أنجاه فلم يصب بأذى، رغم أن عباءته التي كان يرتديها قد وجد بها عشرة خروق أحدثها الرصاص الذي رمي به، ولا يزال ابن هذا المجاهد محتفظا بهذه العباءة إلى يومنا هذا. انظر: (البعد الروحي وأثره في نجاح ثورة النار والنور خلال ثورة نوفمبر المباركة، لأحمد تواقين).
نوفمبر غيّرت فجر الحيـــــاة     وكنت نوفمبر مطلع فجر
وذكرتنا في الجزائر بــــــدرا   فقمنا نضاهي صحابة بدر
   أيها المسلمون: ومن كرامات الشهداء التي يثَبِّت بها الله تعالى إخوانهم المجاهدين الأحياء، أن أجسادهم لا تَبلى ولا تتعفّن بل تفوح منها روائح العطر والمسك، فكم من شهيد تُوفّي وهو باسم الثغر،  وكم من شهيد عُثر على جثته بعد أيام وليالي في الصيف الحار وهي لم تتغير، وكم من شهيد فاحت منه تلك الروائح العطرة. ومن تلك الكرامات التي عرفت طريقها إلى التدوين ما رواه الشيخ محمد الشبوكي قال: "ذات يوم من أيام صائفة عام 1955م وقع اشتباك في جبل القعقاع بالشريعة، وكان ممن استشهد فيه أحمد بن ساعي فرحي وشهيد آخر، وقد مَنعت السلطة الفرنسية الأهالي من أن يقتربوا من جثتي الشهيدين ليدفنوهما، بل إنها نقلت تلك الجثتين من ميدان المعركة ووضعتهما على قارعة الطريق الرابط بين الشريعة وتبسّة ليراهما الناس،  ولقد كانت تستهدف من ذلك الضغط النفساني على أولئك الأهالي المدنيين لكي يمتنعوا عن تأييدهم للمجاهدين، ولكي لا يلقوا مثل ما لقي هذان الشهيدان. يقول الشيخ محمد الشبوكي "وقد أردت أن أرى ذلكما الشهيدين رأي العين، وأقف أمام جثتيهما وقوف المتمعن، فما إن وصلنا إليهما حتى طلبت من مرافقي أن يوقف السيارة فامتثل للأمر، وعندئذ نزلت منها وذهبت إليهما ونزعت الغطاء عن كل منهما، لا أكاد أشعر بشيء من حولي حتى أنني نسيت رجال العدو أنفسهم وما سنتعرض له من نقمتهم إن هم رأونا على تلك الحال، ولكنني كنت أمام مشهد روحي كبير أستلهم منه الشعور بالحياة، وأستشفّ منه معاني التضحية بالنفس في أجمل وأروع صورها ومعانيها، كان الشهيدان باسمي الثغر، متوردي الخدين، تعبق منهما رائحة كرائحة الياسمين". وقد كان ذلك بعد أن قضيا أربعة أيام كاملة تحت لفح شمس ذلك الصيف الحار".  (الحياة الروحية في الثورة الجزائرية لمحمد زروال).
   وفي الأخير أقول ـ أيها المسلمون ـ  إنه لا مطمع لأحد أن يستوعب جميع الكرامات ذكرا وتوثيقا، ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه، وربما كفانا منه القليل، فقط أردت منكم  وأنتم تحتفلون بهذه الذكرى، أن لا تقفوا عند مجرد سرد الحوادث دون وقوف على ما وراء تلك الحوادث، من مبادئ قام عليها الجهاد، وقِيم تحلى بها المجاهدون، وعبر ومعان يجب توصيلها للأجيال، فاذكروا– هذا أيها المسلمون- وحافظوا على تراثكم المجيد، ومجدكم العظيم، الذي ورثتموه عن أسلافكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون.
   اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، ووفقنا للسير على طريقهم يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام. ربنا اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين. وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق