الموضوع: رحم الله شهداءنا
الأبرار
الخطبة الأولى
الحمد لله رب
العالمين، سبحت الكائنات بحمده وعنت الوجوه لعظمته ومجده، له الحكم كله وهو على كل
شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ناصر المجاهدين، ومبشر
المؤمنين الصابرين. "ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز".
الحج:40. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه. أقوى المجاهدين،
وأشجع المقاتلين، ورافع لواء الحق إلى يوم الدين. اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه،
الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وارض اللهم عنا معهم
أجمعين.
أما بعد،
فيا عباد الله: إن لله سننا نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة
الأمم، سبحانه يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء،
فمن أخذ بنوع من تلك السنن، بلغت به وبلغ
بها إلى ما قُدِّر له من ذلّ وعزّ، وشقاء وسعادة، وشدّة ورخاء، سنّة الله، ومن ذا يبدّلها
أو يحوّلها؟. "فلن تجد لسنّة الله تبديلا، ولن تجد لسنّة الله تحويلا".
فاطر:43.
أيها
المسلمون: القرآن الكريم قص علينا من أنباء السابقين مصلحين ومفسدين، وقال:
"قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة
المكذبين". آل عمران:137. فهو يَربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها،
وأنت تقرأ في سورة إبراهيم على نبينا وعليه السلام، أَمْرَ الله لموسى عليه السلام أن
يذكّر بني إسرائيل بأيام الله، قال تعالى: "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج
قومك من الظلمات إلى النور، وذكِّرهم بأيام الله، إن في ذلك لآيات لكل صبار
شكور". إبراهيم:5.
كل الأيام، أيام الله، ولكن المقصود هنا، أن يذكّرهم
بالأيام التي يبدو للبشر أو لجماعة منهم أمرٌ بارزٌ أو خارقٌ بالنعمة أو النقمة. ففي
هذه الأيام، ما فيه بؤس فهو آيةٌ للصبر، وما فيه نعيم فهو آيةٌ للشكر. والصبّار الشكور هو الذي يدرك هذه الآيات، ويدرك
ما وراءها، ويجد فيها العبرة والعظة، كما يجد فيها تَسْرِية و تذكيرا.
ويوم الخامس من شهر جويلية هو من الأيام الخالدة
في تاريخ الجزائر، يومٌ ولد فيه الشعب الجزائري من جديد، ولد عملاقا، كسّر قيوده،
وحطّم أغلاله، وهدم الحواجز والأسوار التي كانت دونه للعيش حرا كريما في وطنه. إنه
يومٌ يعود بنا إلى ذكريات تَحمل أحداثا في تاريخ وطننا وحياة شعبنا، وإنه لمن أيام الله
فينا، يُذكِّرنا بآلام شديدة، وبمحن عديدة، تَذوّقنا فيها المرارة والبلاء، ويُذكِّرنا
أيضا، بنِعَمٍ لا تُحصى، ذقنا حلاوتها، ونعيش اليوم سعادتها، والحمد لله رب العالمين.
أيها المسلمون: إنّ اللهَ الرحيمَ القادرَ هيّأَ
لبلادنا من أبنائها الأحرار من يأخذُ بيدها ويقيلها من العثار، فهبّوا لنصرتها
وقدّموا أرواحهم في سبيل حريّتها لا يبغون مُلكا ولا مالا ولا جاها. فحقّق الله على
أيديهم ما لم يكن في الحسبان، دكّوا صروح الظلم والطغيان، وأعادوا لبلادهم حريتها
المغصوبة، وكرامتها المسلوبة، بحمد الله الكبير المتعال، الذي يُعِزُّ من يأخذ بأسباب
العزة، ويُذِلّ الخاملين الذين يرضون الهوان، ويخضعون للذل والعدوان.
نعم.. لقد عاشت الجزائر 132 سنة من الإستيطان والإستعمار
الإستدماري الوحشي الذي مارسته فرنسا، والذي نتج عنه أكثر من عشرة ملايين شهيد،
ضحوا بأرواحهم كي ننعم بالحرية جيلاً بعد جيل، منهم مليون ونصف مليون شهيد في
الثورة المباركة التي دامت 7 سنوات ونصف، والتي اندلعت يوم الإثنين الفاتح من
نوفمبر 1954،وانتهت بالإعلان عن الإستقلال والحرية لهذا البلد العظيم في 5 جويلية
1962. وهو نفس تاريخ الإعلان عن استعمارها ـ إنه اليوم الذي وقع
فيه "الدّاي حسين" على وثيقة الاحتلال– وكان ممكنا أن تحتفل الجزائر
باستقلالها قبل هذا اليوم. لأن قرار توقيف إطلاق النار كان يوم 19 مارس. كما أن
القوات الفرنسية انسحبت من نفس مكان دخولها شاطئ سيدي فرج بالعاصمة. وهذا لغاية
نعلمها. وهو أن الرجال الأحرار والمجاهدين الأبطال، أَبَوْا إلا أن يثأروا لكلّ يومٍ
مَوْتُورٍ من تاريخ الجزائر، حتى يحقّقوا للحريّة نصاعتها وقدسيّتها.
وها نحن اليوم ـ أيها المسلمون ـ وبعد 50 سنة، نقف وقفة إجلال وإكبار، ونحَيِّي أبطالنا
على ما قدموه لنا ولأرضنا المباركة الطيبة، فرحم الله شهداءنا الأبرار وأسكنهم
الفردوس الأعلى.
نحَيي أولئك الذين كانوا يتنافسون في الجهاد، ويتسابقون إلى النضال، وعُدّتهم في ذلك الصبر والثبات. وشعارُهم: "أحرص على الموت توهب لك الحياة"، وغايتُهم الدفاع عن أنفسهم، وصيانة أوطانهم، وحماية دينهم وعقيدتهم.
نحَيي أولئك الذين كانوا يتنافسون في الجهاد، ويتسابقون إلى النضال، وعُدّتهم في ذلك الصبر والثبات. وشعارُهم: "أحرص على الموت توهب لك الحياة"، وغايتُهم الدفاع عن أنفسهم، وصيانة أوطانهم، وحماية دينهم وعقيدتهم.
ولقد سجّل التاريخ لنا صورا رائعة
عن البطولات التي تُثبت بسالتهم في الجهاد، وتُبيّن مدى ما وصل إليه إيمانهم
القويّ، وعقيدتهم الراسخة في ساحات القتال. واقرأوا معي تلك الرسالة التي كتبها
الشهيد "أحمد زبانة " المولود سنة 1926 بجنين مسكين، والذي ألقى البوليس
الفرنسي عليه القبض، وحكم عليه بالإعدام، وليلة التنفيذ صلى ركعتين، وقدّم هذه الرسالة إلى محاميه، يقول
فيها:
"أقاربي الأعزاء، أمي العزيزة : أكتب إليكم ولست أدري أتكون هذه
الرسالة هي الأخيرة، والله وحده أعلم. فإن أصابتني مصيبة كيفما كانت، فلا تيئسوا من
رحمة الله. إنّما الموت في سبيل الله حياة
لا نهاية لها، وما الموت في سبيل الوطن إلا واجب، وقد أدّيتم واجبكم حيث ضحّيتم بأعزّ
مخلوق لكم، فلا تبكوني بل افتخروا بي. وفي الختام تقبّلوا تحية ابن وأخ
كان دائما يحبّكم وكنتم دائما تحبّونه، ولعلها آخر تحيّة منّي إليكم، وأنّي أقدّمها إليك
يا أمي وإليك يا أبي وإلى نورة والهواري وحليمة والحبيب وفاطمة وخيرة وصالح ودينية
وإليك يا أخي العزيز عبد القادر وإلى جميع من يشارككم في أحزانكم. الله أكبر وهو
القائم بالقسط وحده" السجن المدني بالجزائر : في يوم 19 يونيو 1956 .. أحمد زبانا
نعم ـ أيها المسلمون ـ إنه إيمانٌ متأصّلٌ في
النفوس، وتضحيةٌ بالنفس في سبيل الله، جانبان من أروع جوانب ثورة التحرير.
وكبرياءٌ شامخٌ ميّز الشعب الجزائري الأعزل إلا من إيمانه بحقه، وثقته بنفسه، مما
بثّ الرّعب في نفس المستعمر الجبار المتسلح بكل وسائل التدمير الجهنمية، ولعلكم
تذكرون تلك الصورة التي برز فيها التحدّي مهيبا جليلا عندما واجه- بل دشّن ـ
الشهيدـ "أحمد زبانة" مِقصلة سجن بارْ باروس، فما رفّ له طرف، ولا تردّد
له خطو، بل لقد استقبل الشهادة على ما وصفه الشاعر :
باسمُ الثغر كالملائك أو
كالطفل يستقـبل الصـباح السعيدا
شامخـا أنـفـــــــــه
جـلالا وتيهـــــــــــــــا رافـــــــعا رأسه يناجي الخلودا
فيا رعاكم الله
وأنتم تنعمون بالحرية والإستقلال، وتقيمون لذلك أعيادا، فاذكروا أولئك الشهداء.
ولتحيا في نفوسكم المعاني التي كانوا يجسدونها، ولتتعمق في قلوبكم المبادئ التي
وهبوا حياتهم من أجلها، فتاريخ شعبنا
تاريخ عميق، توّجته ثورة أول نوفمبر الخالدة، ووطننا وطن عزيز، ترفرف حوله
أرواح شهدائنا الأبرار، الذين سالت دماؤهم الزكية، مرددين: "الله أكبر،
والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين".
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل درجاتهم في
عليين ... آمين. أقـول قـولـي هـذا ...
الخطبة الثانية
الحمد لله
رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فاتَّقوا
الله -عباد الله-، وأَحيوا جميل مفاخرِ وطنكم وأمجادِه، وأحرصوا على الوفاء له
وإِسعادِه، فإنَّكم عليه أُمناء، فكونوا له نعم الأَبناء، بالحرص على تحمُّل
المسؤولية في مسيرة البناءِ، والإخلاص له وحسن العطاءِ. كونوا خير خَلَف، لخير سلف، سيروا
على درب الأُلى الذين ساروا على نهج الهدى، وتدربوا على التضحية والفداء. صِلُوا
الحاضر بالماضي، لتبلغوا أرفع مدارج العزّ في العاجلة، وخيرَ منازلِ المقرّبين في
العقبى .
عباد الله:
"إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
تسليما". اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم
أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد
المسلمين. اللهم أدم عليه الفتح والنصر والتمكين، ودمّر من أراده بسوء يا رب
العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد صفوفنا، وأصلح قادتنا، واجمع كلمتنا على
الحق يا رحيم. اللهم انصر إخواننا في فلسطين، وكن مع جميع المستضعفين، ودمر اليهود
وسائر المفسدين. اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، وقنا الزلازل والمحن، وجنبنا
الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم وفّق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته
إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق