لم يعد لهم نساجون..
الحمد لله على ما أنعم، وله
الشكر على ما ألهم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
وبعد،
فإن العلماء رفعهم الله درجات، وجعلهم ورثة الأنبياء. العلماء ملح البلد، هم
السادة والقادة، يقتبس العامة والساسة من أنوارهم، ويهتدون بعلمهم وآرائهم، هم طوق
النجاة والعلامات التي بها يهتدي الحائرون، وإليها يرجع الضالون. إنهم السياج
المتين، يحول بين الدين وأعدائه، والنور المبين، تستنير به الأمة عند اشتباه الحق
وخفائه، هم ورثة الأنبياء في أممهم، وأمناؤهم على دينهم. إن العلماء هم نور
الحياة، ونبراس الهداية، وقبس الحق. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في
ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة". رواه الإمام
أحمد.
إنّ الإلتحام بالعلماء عصمة للأُمَّة من الضلال، فهم كسفينة نوح من تخلَّف عنها -لا سيما في زمان الفتن- كان مِن المُغرَقِين.
نعم.. كلما ادلهمّت الأمور، وأطلّت الفتن، وحارت
العقول، فالعلماء هم الربابنة الماهرون الذين يعتمد عليهم للخروج من كل مأزق وخطر
وفتنة، ويا ويح الأمة لو انطفأت النجوم، أو كسّرت المغازل!!..
ولكن.. للأسف.. نحن في عصر أصبح فيه بعض من كنا نعدّهم كذلك
تبعا لغيرهم، فكلما تحركت رياح الفتن، وأوقدت نيران العدوات، إلا ونفخ فيها بعض هؤلاء
بأوامر من هنا أوهناك..
ألم
يعلمنا هؤلاء أن الفتنة إذا أقبلت يعرفها العلماء، وإذا أدبرت يعرفها الجميع؟.
أليسوا هم الذين ينظرون إلى المآلات، ويبصِرون المقدمات
قبل فوات الأوان؟.
أو ما قرأوا قول الإمام البخاري رحمه الله: قال
ابن عيينة عن خلف بن حوشب: كانوا (أي الصحابة) يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات
عند الفتن، قال امرؤ القيس:
ا لحرب أول ما تكـــــــــــــــــــــون فتية .. تسعى بزينتها لكل جهــــــــــــــول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها .. ولت عجوزا غير ذات حليل
شمـــطاء يُنكر لونها وتغـــــــــــــــــــــــــــــــيرت .. مكروهة
للشم والتقبــــــــيل
أي: كان
الصحابة والتابعون لهم رضي الله عنهم، إذا رأوا بوادر الحرب، قرأوا تلك الأبيات
الشعرية على الناس حتى لا يستعجلوا، لأن الإنسان في أول الأمر يحب الدخول في
الحرب، لكنه بعد أن تظهر شرورها يتمنى أن لو لم يدخل فيها، لأنها تصير مكروهة بسبب
ما حصدت من أرواح وأموال.
أحــبتي:
معلومٌ أن من يقرأ المشاهد قراءة صحيحة ولو على عجل، يعرف أن أعداءً كثيرين لا
يريدون لبلدان المسلمين أمانًا ولا استقرارًا ولا رخاء ولا ازدهارًا. يحركون ما
ومن يستطيعون لإحداث فتن، أو ما يسمى ثورات، لإحداث الخلل وزعزعة الأمن ليسهل التآمر
والتفكيك لتوجهات الأمة الإسلامية، فهم يرغبونها فوضى، ويبغونها عوجًا. ولكن أكثر
الناس لا يعلمون.
ولذا
فإن الواجب على العالم أن يتكلم قبل وقوع الفتنة؛ فإذا وقعت سكت وأمسك؛ فهو
يتحسَّس أسبابها قبل الوقوع، ويتفرس رجالها قبل الشروع، ويتبصَّر مقدماتها قبل
فوات الأوان؛ بخلاف غير العالم الذي لا ينشط إلا بعد وقوع الفتنة. قال شيخ الإسلام
ابن تيمية -رحمه الله: "فلما قتل -رضي الله عنه- [أي: عثمان] تفرقت القلوب،
وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذلَّ الأخيار، وسعى في الفتنة مَن كان عاجزاً عنها،
وعجز عن الخير والصلاح من كان يحبُّ إقامته". (المجموع) (25/304)
وقال
الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله: "واجب
العالم الديني أن ينشط إلى الهداية كلما نشط الضلال، وأن يسارع إلى نصرة الحق كلما
رأى الباطل يصارعه. وأن يحارب البدعة والشر والفساد قبل أن تمد مدها وتبلغ أشدها
وقبل أن يتعوّدها الناس، فترسخ جذورها في النفوس، ويعسر اقتلاعها".
ألا أيها الشيخ.. رحمك الله
في مثواك:
وَكنَّا نَسْتَطِبُّ إِذَا مَرِضْنَا .. فَصَارَ سِقَامُنَا بِيَدِ
الطَّبِيبِ
ألا أيها الشيخ رحمك الله في مثواك: من يصلح
الملح إذا الملح فسد. لقد سمعنا أنَ هناك
من يستأذن أميره ليذهب فيقاتل إخوانا له في دولة عربية أخرى.
أليس هناك ميدان آخر فسيح؟.
أليس المسجد الأقصى
أسيرا في قبضة شراذم خلق الله، وهم أشرّ خلق الله فسادا. هم قتـلة الأنبياء وعبدة
العجل والطاغوت؟.
لماذا لم يذهب هؤلاء إلى
أرض الرباط والجهاد؟. حيث اليهود يعيثون في الأرض فسادا.. حيث يرى المسلمون بأعينهم ومنذ
أعوام مضت، أن الشياطين في ميدان الإسراء يلعبون دور الفساد الذي ورثوه عن أسلافهم
وآبائهم. فها هم قد تكتلوا وتجمعوا من هنا وهناك على سلبه واغتصابه من أهله وتثبيت
أقدامهم فيه.
نفسي
تذوب أسىً والقلب يجــــــــــــــرحـه مما عدا ببلاد
الشـــــــــام أرزاء
فأين مسرى رسول الله وقد وطئت به اليهود، فهل للحق
أبناء؟
إني أعيذكم ـ يا رعاكم الله ـ أن تكونوا مثل
هؤلاء. تدنسون ألسنتكم، ثم تخوضون بأبدانكم في حمم الفتن، وإن حدث ذلك فهي فتنة
الفتن..
ألم يقرأوا حديث رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: " إن
بينَ يدي الساعة فِتَنا كقِطَع الليل المظلم، يُصبح الرجل فيها مؤمنا، ويُمسي كافرا،
ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فَكَسِّرُوا قِسِيّكم، وقطّعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دُخِلَ على
أحد منكم فليكن كخير ابنَيْ آدم » رواه أبو داود
ألم يقرأوا قوله صلى الله عليه وسلم:
"ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي
فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأً أو معاذاً فليعذ
به". رواه البخاري ومسلم. وقوله: من تشرف لها تستشرفه، أي: من انتصب إليها
وخاض فيها قابلته بشرها وأهلكته وصرعته.
وفي صحيح مسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ
تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي
فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ
فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ
فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ،
قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟. قَالَ: يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ
عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ. اللَّهُمَّ
هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. قَالَ
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى
يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ فَضَرَبَنِي
رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي قَالَ يَبُوءُ بِإِثْمِهِ
وَإِثْمِكَ وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ".
إن أمثال هؤلاء الذين ينفخون في الفتن، أَعطوا لأعداء
الأمة والدين ذرائع الإتهام للإسلام بالعداوة، وأّعطَوا للمتربصين الضوء الأخضر
لمهاجمة العلماء العاملين.. وسيأتي يوم يكسِّرون فيه مغازلهم، لأنه لم يعد لهم
نساجون. يرحم الله أبا حامد
الغزالي القائل:
غزلت لهم غزلاً رقيقاً فلم أجد.. لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي
نعم.. إن الفتن إذا أقبلت،
أقبلت متشابهة، لا يعلمها إلا ذوي الرأي، وأما إذا زالت علمها العالم والجاهل،
وأريدكم بعد أن تنجلي الفتنة أن تحسبوا الخسارة، وما هي الآثار التي تتركها؟.
إلى هؤلاء وأمثالهم أذكر
أنه:
روي عن حذيفة رضي الله عنه: أنه
قال: "إياكم والفتن؛ لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته
كما ينسف السيل الدمن، إنها مشبهة مقبلة حتى يقول الجاهل: هذه سنة، وتبين مدبرة،
فإذا رأيتموها فاجثموا في بيوتكم، وكسروا سيوفكم، وقطعوا أوتاركم، وغطوا
وجوهكم". رواه: عبد الرزاق في "مصنفه"، والحاكم في"مستدركه"، وأبو نعيم في"الحلية" من طريقه. وقال الحاكم:"صحيح الإسناد، ولم
يخرجاه"، ووافقه الذهبي في"تلخيصه".
وعن عُدَيسةَ بنت أهبان قالت: لما جاء علي بن أبي طالب ههنا (البصرة)
دخل على أبي، فقال: يا أبا مسلم ألا تعينني على هؤلاء القوم؟ قال: بلى، قال فدعى
جارية له، فقال: يا جارية أخرجي سيفي، قال: فأخرجته فسلَّ منه قدر شبر، فإذا هو
خشب! فقال: إنَّ خليلي وابن عمك عهد إليَّ: "إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ
سيفاً من خشب"، فإن شئت خرجت معك، قال: لا حاجة لي فيك، ولا في سيفك. (أخرجه الترمذي،
وابن ماجة، وأحمد، السلسلة الصحيحة: 1380)
ويروى أنه بعد انجلاء فتنة ابن الأشعث قال مسلم بن يسار وكان مشاركا
فيها: الحمد لله قد انجلت الفتنة ولم أضرب بسيف ولم أرم بسهم، فقال له أبو قلادة
الشافعي: يا مسلم أرأيت إن رآك جاهل فخرج وقتل من يتحمل قتله؟،فبدأ مسلم يبكي حتى
تمنى أبو قلادة إن لم يقل له شيء".
وقيل لسعد بن أبي
وقاص: ألا تقاتل فإنك من أهل الشورى وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك فقال: "لا
أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر فقد جاهدت
وأنا أعرف الجهاد". و في رواية لأحمد
بن حنبل أن سعدا قال لابنه عمر : " أي بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا،
لا و الله حتى أعطي سيفا إن ضربت به مؤمنا نبا عنه، و إن ضربت به كافرا قتلته، و
قد سمعت رسول الله –صلى الله عليه و سلم- يقول : "إن الله عز وجل يحب الغني
الخفي التقي".
أحــبّتي: قال الله تعالى: "لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ
نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ
النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْراً عَظِيماً". (النساء:114).وقال سبحانه:
"فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ".) الأنفال:1).
هذا هو الواجب في مثل هذه الظروف وفي هذه الأحوال
العصيبة التي لفّت كثيراً من المسلمين إلا من رحم الله، فعلينا أن ننتبه لذلك، وأن
نحذر كيد أعدائنا. ديننا دين اجتماع ومحبة وتآلف بين المسلمين. فلنحرص على توحيد
الكلمة، ورأب الصدع. فالأمة مثخنة بالجراح، ولا يجوز مداواة القروح بالجروح، وإنما
الواجب إشاعة المودة والمحبة والإخاء، ونبذ التفرق والشقاق، وهذا لا يتحقق إلا
بسلامة الصدور، ورعاية الحقوق، والترفُّق في النصيحة، ومحبة الخير للمسلمين،
والتماس الأعذار لهم. في الصحيحين: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد
إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). ويقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ
بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ .. } آل عمران/103. ولنتق الله عز
وجل، ولننظر في واقعنا، ولنحذر من أعدائنا، ولنتمسك بديننا، ولنأخذ الأسباب
الواقية من هذه الفتن، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "شَرَعَ لَكُمْ مِنْ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا
بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ" (الشورى:13).
هذه خواطرٌ في هذا الموضوع، لم أقصد فيه لمَّ
جوانبه، وجمع أطرافه، واستيفاء القول فيه؛ لأن الكلام فيه طويل،
والمجال قليل، والغرض التنبيه. والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد ان هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب). اللهم إنا نسألك أن تعيذنا
من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وألا تجعلنا من المغترين المغرورين يا رب العالمين.
اللهم يسر لهذه الأمة ما يحفظ به عليها دينها، ويُنصَر به أهل طاعتك ويُذل به أهل
معصيتك. اللهم واحفظ علماءنا في كل مكان وألهمنا وإياهم صواب الفكر وصدق القول وحسن
العمل. وقبل كل ذلك ومعه وبعده ارزقنا خلوص النيّة وصفاءها، ونبل التوجّه، وسلامة
المسار في خط الهدى وعلى صراط النجاة يا رب العالمين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا
في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شريا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في
الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا
محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق