24 مايو 2020

الموضوع: لو كنت خطيبا في هذا العيد تحت ظل جائحة كورونا.. لقلت: 

بعد التكبير والحمد والثناء لمستحق الحمد وأهله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعبده.. والترضّي على آله وصحبه:
أما بعد، أيها الناس، قولوا للناس:
أتاكم العيد بالافراح فاحتفلوا * واكثروا من تهاني العيد واتصلوا
وبلّغوا الاهل والاصحاب تهنئة * بالعيد يزهر فيها الحب والامل
لإنكم في يومٍ تبسّمت لكم فيه الدنيا، أرضُها وسماؤها، شمسُها وضياؤها، صمتم وقمتم شهر رمضان المبارك، ثم ها آنتم في بيوتكم تسألون الله الرضا والقبول، وتحمدونه على الإنعام بالتوفيق للصيام والقيام..  
فبشرى لكم– أيها الصائمون– إيمانا واحتسابا، عاقبة حميدة، وقدوم على الله مفرح، تقبل الله صيامكم وقيامكم، وبارك لكم في عيدكم..  
أيها الناس، قولوا للناس: إن الذاكرةَ ملكةٌ مستبِدّة، قد تفرض عليكم أمورًا لم تكونوا تريدونها، ولعلّ في هذا اليوم يُدَوي في مسمع كثيرٍ منكم دَويَّ الطبل قول أبى الطيب المتنبي، وقد تَرك مصرَ في يوم عيد، وهو يُنشد:
عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ * بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيه تجْديدُ
أو تذكرون قصيدة المعتمد بن عبّاد (1040 - 1095) ملك أشبيلية في الأندلس، الذي أسره يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، وحبسه في منطقة أغْماتَ بالقرب من مدينة مراكش بالمغرب، ومنع عنه أي عطاء، حتى اضطرّت بناته أن يغزلن الصوف ليوفّرن له ولأنفسهن القوت، فلما رأى بناته بعد أن أتين لزيارته حافياتٍ وكسيراتٍ فقيراتٍ في أول عيد يأتي عليه وهو سجين، أنشد هذه القصيدة التي تفيض أسى وحزناً، وكأنه اختزل لنا هذه الحال في تلك، فقال:
فيمـا مضى كنت بالأعياد مسروراً * فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة * يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدامُ حافيةٌ * كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
ولكن صدق الله القائل: "وإن أكثر الناس لا يشكرون"، فلنعترف أننا عشنا رغدا من العيش، وتنعّمنا من خيرات رب العالمين، وإن كانت هناك شدائد فرضتها جائحة كورونا، فذلك قضاء الله وقدره، والحياة وأقدارها تتفاوت بصعودها وهبوطها، بمفاجآتها السارة والحزينة، تأتي الأشياء على حين غفلة، وترحل كذلك، وهل باستطاعتنا منع الأشياء من الحدوث؟.
ولذا، فقولوا للناس، أيها الناس: إننا سنستمر في الحياة بإرادة الله، لأن الله استخلفنا وناظر ما نعمل وما ذا تعلمون، فلنسير صفا واحدا في الهمّة مع المحنة، ولن تؤثر جائحة كورونا علينا ولا على عيدنا، لأن العيد من شعائر الله، "ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب". فلنفرح، ولنلبس للسرور وشاحا، فهذا يوم الجائزة ، ويوم الفرحة الصغرى كما جاء في الحديث، إنه فرحة الإنتصار على الذات في صوم رمضان وقيامه، وإنها للذة تستحق الإظهار، وإن السعادة في العيد لا تكمن في المظاهر والشكليات، وإنما تتجسّد في المعنويات وعمل الصالحات، ويومكم هذا يومٌ أنور أزهر، ويومٌ محجَّلٌ أغر.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، ولله الحمد..
أيها الناس، قولوا للناس: أن في فترات المحن والمصائب كما في جائحة كورونا، تختبر المبادئ والشعارات المرفوعة، وتوضع معاني الإيمان والأخوة على المحك، فيظهر الصادقون من الكاذبين، ويتميز الأوفياء عن المتنكرين العاجزين عن فعل الخير، المتأخرين عن القيام بالواجب.
والمسلم دائما كما أوصاه دينه، عينه على نفع الناس وسلامتهم، وواجبه يتحدّد في توعيتهم بما يجب عليهم القيام به لمواجهة الحياة وتحديات الخطر، وحيث ما أقام الإنسان في أرض الله الواسعة يجب عليه أن يلتزم بدينه وأخلاقه وبالتعليمات الصحية والإدارية التي يصدرها المعنيون للإحتراز من وباء كورونا في البلدة التي يعيش فيها، ويعتبر التقيّد بهذه التعليمات نوعًا من الالتزام الأخلاقي والديني العام، لأن الوقاية خير من العلاج.. والحجر الصحي المنزلي ضرورة شرعية ووطنية وأخلاقية، يجب على الجميع الإلتزام بها.. وليس من الشجاعة أن يخالف أحد الإحترازات الضرورية للوقاية من هذا الوباء، والمسؤولية مشتركة لسلامة الجميع.. فلا يكن المسلم سبباً في نشر المرض، ولا في إيقاع الضرر بالآخرين، مما يفرض على الجميع خلال الفترة الحالية تجنب التجمعات والالتزام بالتعليمات لعبور المرحلة الراهنة بأمان.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، ولله الحمد..
أيها الناس، قولوا للناس: إن كانت أزمة كورونا أجبرتنا جميعاً على المكوث في المنازل في هذا العيد وقبله، إلا أنها أعادتنا إلى أيام لطالما افتقدناها، وهي الأيام التي كان يجتمع فيها كل أفراد الأسرة معا، ويتجاذبون أطراف الحديث، وها نحن قد اجتمعنا وتحادثنا، وكأن هذا الفيروس جاء ليذكرنا بمن لدينا من أحباب. جاء كنوع من الإفاقة لنا ولمشاعرنا الإنسانية، جاء مضيئا للون الأحمر لينبهنا: "استمتعوا بأحبابكم وبتلاقي الأرواح قبل فراقها".
ولهذا فإن ألغت جائحة كورونا في هذا العيد تبادل التبريكات والتهاني بالزيارات والمصافحة باليد والتقبيل والعناق بين الأصدقاء والأقارب، فلقد عوضنا الله ـ برحمته ـ المعايدات الإلكترونية، في ظل وجود الهواتف الذكية وتطبيقات الرسائل الفورية، ووسائل التواصل الاجتماعي عبر إرسال التهاني، فاستغلوا الفرصة للاتصالات الصوتية أو حتى المرئية بين العائلات.. واتركوا السجايا تنطلق على فطرتها، والعواطف والميول تبرز على حقيقتها، فإننا بإيماننا نفرح رغم الألم..
ومن هنا، قولوا للناس، أيها الناس، لنبدأ في التغيير والعمل من أجل فرحة الجميع، ولنترك لوم الزمان والدهر، فذلك فعل الفاشلين العاجزين، لا فعل الطموحين الناجحين، وقد قال الشاعر الإسلامي عدنان النحوي في أبيات له جميلة:
ما لي ألوم زماني كلما نزلت * بي المصائب أو أرميه بالتهم
أو أدّعى أبداً أنّي البريء وما * حملت في النفس إلا سقطة اللمم
أنا الملوم فعهد الله أحمله * وليس يحمله غيري من الأمم
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، ولله الحمد..
واذكروا ـ أيها الناس ـ في يومكم هذا، وفي كل يوم، رجالٌ ونساءٌ لكم في خطوط النار الأولى، في ميدان معركة مكافحة جائحة كورونا، من أطباء وممرضين وكوادر إدارية وأمنية، وكل الذين يبلون بلاء حسنا.. أولئك المباركون أينما حلوا، همّة علياء، وعزيمة شاهقة بارتفاع هامات السماء.. فكونوا معهم ولو بكلمة طيبة، أو دعوة صادقة، وشدُّوا العزائم، وتنافسوا في الخيرات، وتحدّثوا بنعمة ربكم عليكم.. وتذكروا أيضا إخواناً لكم أقعدهم فيروس كورونا، وهم في المستشفيات على الأسِرَّة البيضاء يرقدون، فلا تنسوهم وجميع مرضى المسلمين من دعوة صالحة. وترحموا على اولئك الذين سقطوا في ميدان معركة كورونا، تقبلهم في عليين. الله كبر.. الله اكبر.. ولله الحمد.. .
  قولوا للناس، أيها الناس: إن الطاهرة عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنّيان.. فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني.. وقال: مزمارُ الشيطان عند رسول الله؟! فقال له الرسول: "دعْهما .. يا أبا بكر إنّ لكل قومٍ عيداً، وهذا عيدنا"..  "دعهما.. هذا عيدنا..". كم مرّة تداول المسلمون في العيد هذا الحديث النبوي؟!
وكم مرة ردّدوا هذا البيت الكئيب: عيدٌ .. بأية حالٍ عدت يا عيدُ؟! الجواب مُعرٍّ لمدى وعيِنا، ولحقيقة اقتدائنا ..
قولوا للناس، أيها الناس: "هذا عيدنا".. فلنُخلص الفرحَ فيه لله مع أبنائنا وبناتنا وأهلينا أجمعين، ولنجعل فرحة العيد تنتصر على كورونا، ولنختار ثوب العافية بالبقاء في المنازل حتى نخرج إلى البر الأمين بإذن رب العالمين، ولنتذكر ما أبقى الله لنا من خير، وما أنعم به علينا من فضل، فلئن حلّت بنا محن، فقد أبقى الله لنا منحاً، ولئن أصابتنا نقم، فقد أبقى الله لنا نعماً "وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها"، ونحن أحوج ما نكون إلى أمل يدفع إلى عمل، وفأل ينتج إنجازاً، ولا تُمحى الهزائمُ إلا بالعزائم ..
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، ولله الحمد..
وأخيرا.. أيها الناس: هذه خطبتي محمّلة بالتبريكات والتحيات العطرة، أسأل المنان أن يوصلها الآذان، ويبلغها الجنان، وأن يسعدكم بهذا اليوم الجديد، والعيد السعيد، ويوصل أيامكم بعده بأجمل السعادات وأكمل البركات، وأن يعيد شمس العافية إلى مدارها ببلدنا وببلاد المسلمين أجمعين، وأن يبقينا في عافية وسعد ورزق موفور بمنّه وكرمه، إنه غفور شكور، وصلى الله على سيدنا محمد ما دامت الأيام والشهور، وسلم تسليما..


                         كل عام وأنتم بخير.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق