06 نوفمبر 2020

 

 الموضوع:   هنيئا بصلاة الجمعة وتدشين جامع الجزائر في ذكرى نوفمبر وربيع البشائر.  

 

الخطبة الأولى

   الحمد لله رب العالمين.. الحمد لله على ما أراد بنا من عاجل الخير وآجله، ومؤتنفه وراهنه، فجعل لنا في أنفسنا مواعظ، وفي أبداننا زواجر، يرشدنا ويهدينا، ويكفّنا عما يرْدِينا، من مرض بعد صحة، وفقر بعد غنى، وبلاء بعد لطف، لنعتبر بتغير الأحوال علينا، وتغيير الحدثان إِيانا، حمداً تتألف أشتاته، وتتّصل أمدادّه، نبرأ إليه من الثقة إلا به، ومن الأمل إلا فيه، ومن التسليم إلا له، ومن التفويض إلا إليه، ومن التوكل إلا عليه، ومن الطلب إلا منه، ومن الرضا إلا عنه، ومن الذل إلا في طاعته، ومن الصبر إلا على بابه.  ونشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء، وسلّم تسليما كثيرا..

    أما بعد، عباد الله: اتقوا الله -تعالى-؛ فإنَّ في تقواه خلَفًا من كل شيء، وليس من تقوى الله خلَف. واذكروا أنكم فارقتم مثل هذا المجلس المبارك أكثر من سبعة شهور، ولو قيل له تحدّث، لقال عنكم:

تَمَهَّلْ رُوَيْدًا عَنْ نَاظِرِيْ * يَرَى أَيَّ أَرْضٍ هُمُ سَالِكِينا

لَئِنْ غُيِّبُوا اليَوْمَ عَنْ نَاظِرِي * فَفِي القَلْبِ صَارُوا مِنَ السَّاكِنِينَا

أيها المسلمون: لا عجب أن حزَن أهل الإيمان حين حيل بينهم وبين مساجدهم حماية من الوباء فبكوا لفراقها، ولا عجب أن فرحوا بالعودة إليها مرّة أخرى، فبكوا للصلاة فيها، فهي أنسهم وراحتهم وبهجتهم، حيث مناجاة ربهم سبحانه وتعالى "فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". الْجَاثِيَةِ: 36- 37

عُدْتُمْ لِبَيْتِ اللهِ والعَوْدُ أَحْمَدُ * مِنْ بَعْدَ مَا فَارَقْتُمُوهَا فَاسْعَدُوا

هَذِي بُيُوتُ اللهِ أَيُّ مَنَازِلٍ * تَهْفُو عَلَى قَلْبِ المُحِبِّ وَتُنْجِدُ

    حقَّ الآن للطيور أن تغادر في أوكارها، والأرواح أن تجدّد في مساجدها مسارها، ‏ليمضي الجميع معًا لمواصلة السير في عمارة الكون بطاعة الله وعبادته، وعمران المساجد حسًّا ومعنًى، والاستمرار في البناء والعطاء.. واستشعار المسؤولية في استبقاء النعمة ودوامها بفعل الأسباب المعنوية والمادية لمواجهة هذا الوباء والابتلاء.. فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه بمواجهة الأمر بالتوكل عليه وتعظيم شعائره، وبالشكر الحقيقي لنعمه، قال الله تعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ". إبراهيم: 07.

    فاشكروا الله، وتذكروا -وفقكم الله- أن حمد الله والثناء عليه والإكثار من ذكره أجلّ وأفضل من النعم التي أنعم بها من صحة ورزق، وتوسعة عليكم في أمور الدنيا؛ فقد روى ابن ماجة بإسناد حسن عنه قال: "ما أنعم الله على عبد بنعمة، فقال: الحمد لله إلا كان ما أعطى أفضل مما أخذ".  وإن نعم الله ـ تبارك وتعالى ـ على عباده كثيرة لا تحصى، وأعظم نعمة أنعم الله بها على الثقلين الأنس والجنّ: أن بعث فيهم عبده ورسوله وخيرته من خلقه محمدا ، ليخرجهم به من الظلمات إلى النور، ويرشدهم إلى سبيل النجاة والسعادة، ويحذّرهم من سبل الهلاك والشقاوة، قال تعالى: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ". آل عمران: 164.

   أيها المسلمون: وفي هذه الأيام تحيي أمتنا ذكرى مولده وهي تعيش ظروفًا صعبة في ظاهرها، ولكنها تحمل في طياتها الخير الكثير لمستقبل الإسلام والمسلمين وللبشرية جمعاء، وإن الأمة التي تجعل من الأحداث التي مرت بها دافعا قويا نحو الأمل والعمل، وتأخذ من ماضيها لحاضرها، وتستفيد من الأزمات والمحن الدروس والعبر، وتستثمر وقتها في البناء والتنمية، إنما تشقّ طريقها الصحيح نحو مستقبل زاهر بإذن الله..

    هذا.. وإن الجزائر على لسان شاعر ثورتها ـ مفدي زكريا رحمه الله ـ تمثّل في الوجود رسالة، رسالة ردّدت صداها جبالنا وصحارينا ومدننا وقرانا التي هبّ كل مواطن فيها ليصنع ملحمة تاريخية قلّ مثيلها في العالم، وعلى رجع صداها يسير المخلصون من أبناء الجزائر وبناتها. قال شاعر الثورة رحمه الله في خواطره وأسمعا:

إن الجزائرَ في الوجود رسالةٌ * الشعبُ حرّرها وربُّك َوَقّـعا
إن الجزائرَ قطعةٌ قدسـيّةٌ  *  في الكون لحّنها الرصاصُ ووقّعا

    وها هم الأخيار في الجزائر على درب الأُلى الذين ساروا على نهج الهدى، يصلون الحاضر بالماضي في تحمُّل المسؤولية في مسيرة البناءِ والإخلاص للوطن وحسن العطاءِ.

     ففي شهر مولده ـ شهر البشائر ـ تمّ بتوفيق من الله اغتنام هذه المناسبة العظيمة، والتي توافق أيضا- هذا العام- ذكرى ثورة أول نوفمبر الخالدة وافتتح المسجد الأعظم ـ مسجد الجزائر ـ الذي تختزل في طياته أكثر المعارك الحضارية والفكرية والدينية احتداما، وهو يردّ بشموخه الذي يمتدّ على طول خليج واجهة بحر الجزائر، على رغبة فرنسا في تحويل الجزائر المسلمة إلى أرض مسيحية، كما أعلنها قبل 188 سنة ملك فرنسا شارل العاشر، وكما فعلت ذلك حين إعلانها العام 1930 في الذكرى المئوية الأولى لاحتلال البلاد، على انتصار الصليب على الإسلام..

     إنها الطريقة نفسها التي تردّ بها اليوم هذه الأرض الطيبة التي شيّد عليها المسجد، والتي ابتلعت عام 1541 أسطول شارلكان، وكانت قد حولتها فرنسا خلال احتلالها إلى أكبر حاضنة للتبشير في الجزائر وأفريقيا وتحمل اسم كاردينال التبشير (لافيجري)، ومصنعا لتفريخ "الآباء البيض"، لتحتضن اليوم أعظم مشروع إسلامي في القارة الإفريقية، بعد أن استرجعت الأرض هويتها وتحوّل اسمها معطرا باسم خير البرية (المحمدية).

وطنٌ تَخُطُّ له الملاحمَ جُرْجُرَهْ * وَيجيء يَقرأ في الوجوه نوفَمبرَهْ
وَيسيرُ يرسُمُ بالنضال خلودَه * حِكَما على قِبَبِ الجَمال مُعطّرةْ

 اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

الخطبة الثانية

   الحمد لله.. عزّ جاره، وجلّ ثناؤه، ولا إله غيره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

   أما بعد، أيها المسلمون: لقد كان وما زال ميلاد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ميلادا لكلّ الفضائل الحميدة السّامية، وللشجاعة والبطولة ونكران الذات، وكان ميلاد الثورة الجزائرية وما زالت ميلادا لكلّ الفضائل الحميدة، وللشجاعة والبطولة ونكران الذات. وعلى ركب الخلف الخيار يمضي السلف الأبرار وفاء للذاكرة التي صنعها رجال نوفمبر، وأن ميراث محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ محشوم مخدوم مفدى بالأرواح في كل زمان ومكان، ولعل هذا الذي تراه في الجزائر المحروسة بعين الرحمن.. فالحمد لله على كلّ ذلك، والحمد لله الذي أذن لنا في إقامة جمعتنا وسماع خطبتنا التي كانت قد منعت عنّا بعد مُضيّ فترة ليست بالقصيرة مع ما سبقها من احترازات وتدابير وقائية لدفع جائحة كورونا، وكأن هذه الجائحة جاءت لتدرِّبنا على اتخاذ الإجراءات الوقائية، واستشعار المسؤولية من الجميع، مع القناعة بأن الوباء أمرٌ واقع وخطير، ولا زال يتخطّف الناس من حولنا، وتبقى الآن المسؤولية في يد المجتمع الذي يحتاج إلى مواصلة التحرّز والإحتياط والأخذ بالبرتوكولات الموصَى بها إلى أن يزول تمامًا وبالكلية بإذن الله وحوله وقوته.

    أيها المسلمون: وإن كانت جائحة كورونا علّمتنا أن الإنسان قد يفرّ من أقرب المقربين إليه، ويبتعد ممّن يحبه ويواليه، ولئن كان هذا اليوم – بقصد صحة الأبدان-، فإن يوم القيامة سيفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، ويلجأ لربه ومولاه، خوفاً من العذاب.. فاتقوا الله وأطيعوه، "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ".البقرة: 281. وتذكّروا أن الله امتدح الأنبياء فقال: "أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ". الأنبياء:90.

وَلَا تُبْقِ فِعْلَ الصَّالِحَاتِ إِلَى غَدٍ * لَعَلَّ غَداً يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ  

      هذا.. وبالمناسبة نثمّن ونشكر ما قامت به الدوائر الوزارية والأيادي البيضاء والجهات الوصية للحد من انتشار الفيروس، ومن كانوا ولا يزالون على أرض المعركة يبلون بلاء حسنا من أطباء وباحثين وممرضين وكل الكوادر الإدارية التي تصاحبهم، ولا ننسى أولئك الذين اتخذوا التضامن في هذه المرحلة سبيلا، وأطلقوا حملات واسعة لدعم الفقراء والمحتاجين، وحتى للمستشفيات بالمعدات الطبية اللازمة. فأجر وعافية لهم ولكل من ساهم ويساهم من قريب أو بعيد بعمل طيّب أو قول حسن.. ورحم الله من قضوا في هذه الجائحة وأنزلهم منزل الشهداء.. ونسأل أن يلطف بنا فيما نزل وفي قضائه إذا نزل، إنه لطيف لما يشاء..

    ودامت رزنامة مواعيد انتصارات الجزائريين..  فهنيئا بصلاة الجمعة وتدشين جامع الجزائر في ذكرى نوفمبر وربيع البشائر.. وهنيئا لهم ـ أيضا ـ بميلاد دستور نتمنى أن تتجلى فيه رابطة الوفاء للشهداء والتمسك بالذاكرة التي تليق بهم وبتاريخهم ومكتسباتهم وقيمهم، وتجعلهم يتفيّأون بظلال وطنهم وينعمون برخائه وأمنه واستقراره وتماسك نسيجه الإجتماعي، وطنا يجمع لحمتهم مع جغرافيا ملهمة..

  ودامت الجزائر بإذن الله مسقية الأرجاء بالإيمان، مشرقة الأغصان بالأمان، آمنةً مطمئنة ساكنةً مستقرة، إثمدا في عين الودود، وعلقما في عين الحسود، ويسر الله لأبنائها حكمة مستمدَّةً من تعاليم الإسلام تسدِّد الرأي وتثبِّت الأقدام، وألفة تجمع الشمل، ووحدةً تبعث القوَّة، وعزيمةً تقطع دابر الاستعمار من النفوس بعد أن قطعت دابره من الأرض،

   اللهم وأوصل أيامنا بعد هذا بأجمل السعادات وأكمل البركات، وأعد شمس العافية إلى مدارها ببلدنا وببلاد المسلمين أجمعين، ونسألك اللهم على أداء حقك، والسلامة من حقوق خلقك، ووفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى العافية والبر والتقوى، وهيء له البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق