08 يناير 2021

   الموضوع الأنانية والإيمان ضدان لا يجتمعان

الخطبة الأولى

   الحمد لله ألّف بين قلوب المؤمنين فأصبحوا بنعمته إخواناً، ونزع الغلَّ من صدورهم فكانوا في الدنيا أصحاباً وفي الآخرة خلاناً، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغنا لديه زلفى ورضواناً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله تصديقاً به وإيماناً، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه على دينه قولاً وعملاً وعدلاً وإحساناً..

   أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واذكروا نعمته عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا؛ فحافظوا على هذه الأخوة بالتسامح والتعاطف ومحبة الخير للجميع، وامتثلوا وصية نبيكم : "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسَّهر". واعلمواـ رحمكم الله ـ أن التوادّ والتّراحم لا يتحقَّقان إذا كان كلّ فرد يفكّر في مصلحته فقط دون مصلحة الآخرين، وفي راحته فقط دون راحة غيره.. فقيمة المجتمع في أخلاقه، ولن ينجح مجتمعٌ لا يعرف أفراده إلا كلمة (أنا)، ولا يكمل إيمان فرد لا يرى الخير إلا لنفسه فقط، قال : "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه". فبيّن  أن من أهمّ عوامل رسوخ الإيمان في القلب أن يحب الإنسان للآخرين حصول الخير الذي يحبه لنفسه من حلول النعم، وزوال النقم، وبذلك يكمل الأيمان في القلب.

    وحينما نقلب سير سلفنا وصالحي أمتنا نرى في أخبارهم عجبًا، وفي سيرهم تربية وعبرًا في هذا الشأن، روى الإمام الغزالي رحمه الله، عن محمد بن المنكدر وكان تاجر أقمشة: أنه كانت له قطع بعضها بخمسة دراهم وبعضها بعشرة، فباع غلامه وهو غائب عن الدكان قطعة بعشرة، وهي من ذات الخمسة، فلما عاد ابن المنكدر وعرف ذلك، لم يزل يبحث عن المشتري طوال النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد باع لك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال المشتري: يا هذا قد رضيت، فقال ابن المنكدر وإن رضيت، فإننا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا؟، فرد عليه ابن المنكدر خمسة دراهم.

   وحدث الأستاذ أبو الحسن الندوي رحمـه الله قال: "حدثني بعض الثقات المعمّرين الذين أدركوا عهد الأشراف في الحجاز، أن تجار مكة كانوا في ذلك العهد على جانب عظيم من المواساة لزملائهم، والنظر في مصالحهم، والإخلاص والإيثار لهم، قال: كان بعض التجار إذا أتاه زبون في آخر النهار، وقد باع ما يكفيه لقوت يومه، وما حدّده من الربح والوارد، ولم يكن زميله الجار سعيد الحظ في ذلك اليوم، قال له في لطف وهدوء: دونك هذا الدكان الذي هو بجواري تجد عنده ما تجد عندي، وقد لاحظت قلة الزبائن عنده هذا اليوم، فهو أحق أن تشتري منه"!.   

  وللأسف.. ولو نظرنا حولنا لوجدنا أن الأنانيَّة أصبحت صفةً لا تستدعي الخجل، بل بتنا نسمع في مجتمعنا من يقولون: "الله يجيب الغفلة بين المشتري والبائع"، وممّن يعتبرون الأنانيّة "شطارة"، وأنَّ الحياة هي لمن يحبّ ذاته ويقدِّمها ويُفضّلها على أيّ شيء آخر. فالأنانيّ هو "الشّاطر" الّذي يعرف كيف يعيش، كيف يقتنص الفرص لحسابه الشَّخصيّ، كيف يربح أكثر ولو بمنافسةٍ غير شريفة.. وليست صورة الأنانية وحب المصلحة مقتصرة اليوم على التاجر، فهناك نماذج كثيرة تلقى بظلالها الكئيبة على مجتمعنا حين يفقد بوصلة الإيمان،  فتجد بعضهم يلغي الطابور ويقفز إلى الأمام في مكتب البريد أو عند الطبيب أو غير ذلك، وكأن الآخرين لا وجود لهم إلا كعقبة أمام تحقيق أهدافنا الخاصة. ويكاد لا يلتقي جزائريان إلاّ ويشتكيان من ظواهر سلبية عدّة يعاني منها مجتمعنا، فهذان يشتكيان من عدم احترام شروط النّظافة وآدابها وأحكامها. وهذان يشتكيان من تهوّر السائقين وكثرة حوادث السير. وهذان يشتكيان من سوء العشرة بين الجيران وعدم تعاونهم على ما فيه صالحهم. وهذان يشتكيان من الحرفيين مهما كانت صنعتهم وعدم إتقانهم وعدم التزامهم بالمواعيد.

أليس هذا هو واقعنا؟ولكن للأسف نرمي المسؤولية على الآخر، الذي ليس هو إلاّ نحن!.

أيها المسلمون: كم نحتاج إلى الحديث النبوي: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" في حياتنا اليومية، مع أنه يكاد لا يخفى على أحد؟، ولكن ليسأل كل منا نفسه إلى أي مدىً طبقت هذا الحديث؟.

 وكم من موقف مر عليك حكمت فيه تلك المعاني الجميلة؟.

لقد قص النبي على أصحابه قصة رجلين مؤمنين، ضربهما مثلاً لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العفاف والزهد والإيثار قال: "اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشتري العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال للذي اشترى العقار منه: خذ ذهبك عني، إنما اشتريت منك الأرض ولم ابتع منك الذهب.

فقال الآخر: إنما بعتك الأرض وما فيها!

قال : فتحاكما إلى رجل.. فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد؟

فقال أحدهما: لي غلام.

وقال الآخر: لي جارية.

فقال الحكم : أنكحوا الغلام الجارية: وأنفقوا على أنفسكم منه وتصدقا" (القصة رواها مسلم في صحيحه).

وهكذا يرى الناس لوناً ممتازاً من النفوس: رجلان وأمامهما جرة فيها ذهب لا يتقاتلان عليها. ولكن يتدافعانها، يقول كل منهما لصاحبه: هي لك.. على حين نرى الإنسان دائماً يقول: هذا لي!.

 ألا فليتذكر الجميع بأن خزائن الله ملأى وتسع الجميع والقمة تسع الجميع، فلا يعني أن ثمة أمرٍ جاء إليك ودفعت جزءً منه إلى الآخر أو دللت الآخر عليه أن الأمر انتهى، أنت تتعامل مع الكريم الذي خزائنه ملء السماوات والأرض لا تنقصها نفقه فكلما قدمت قدّم الله لك.   

    أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم من أصحاب النفوس التي تحب الخير للغير، وأن يصلح لنا نياتنا وذرياتنا، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية

 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،   صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين

   أما بعد، روى الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في معرض ترجمته للسري السقطي رحمه الله فقال: قال أبو بكر الحربي: سمعت السري يقول: حَمِدْتُ اللهَ مَرَّةً، فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ مِنْ ذَلِكَ الحَمْدِ مُنْذُ ثَلاَثِيْنَ سَنَةً. قِيْلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: كَانَ لِي دُكَّانٌ فِيْهِ مَتَاعٌ، فَاحْتَرَقَ السُّوْقُ، فَلَقِيَنِي رَجُلٌ، فَقَالَ: أَبْشِرْ، دُكَّانُكَ سَلِمَتْ. فَقُلْتُ: الحَمْدُ للهِ، ثُمَّ فَكَّرْتُ، فَرَأَيْتُهَا خَطِيئَةً. اهـ وقال: فمذ قلتها وأنا نادم حيث أردت لنفسي خيرا دون المسلمين.

   هذا من دقائق مكارم الأخلاق لمن تأمل القصة جيداً..  فالسّرّي رحمه الله قد شعر بأنه قد تلبس بأَثَرَة وأنانية، دون شعور بعطف ورحمة تجاه إخوانه المصابين، وهذا ما أشعره بالخطيئة إذ حمد الله على سلامة دكانه ولم يواس الناس فيما هم فيه، والنبي  قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

فلنتفقد أنفسنا ولنحكم بعد ذلك على إيماننا. فالأنانية والإيمان ضدان لا يجتمعان؟.

     ألا فكونوا على الجادة الكريمة التي إنما تسلكها الأنفس الشريفة التي تخلقت بأخلاق الصالحين، جاء في صحيح مسلم عن النبي  أنه قال: "من أحب أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يُؤتى إليه". وهذا أصلٌ عظيم ينبغي أن نستحضره في كل تعاملاتنا، وأن نتواصى به، وأن نُعلِّمه أهلينا وأولادنا وأصدقائنا..

 اللهم أعنا على أداء حقك، والإحسان إلى خلقك، واصرف عنا السوء والفحشاء، واجعلنا من عبادك المخلصين، لا إله إلا أنت سبحانك بك نستجير، وبرحمتك نستغيث ألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر، وأصلح لنا شأننا كله يا مصلح شأن الصالحين. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعاصيان، واجعلنا من الراشدين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق