الموضوع: بين يدي شهر
الغفران..
الخطبة
الأولى
الحمد لله الذي أنعم علينا بمواسم الطاعات
التي تضاعف فيها الحسنات وتمحى فيها السيئات، أحمده حمدا يليق بجلاله وعظيم
سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على
كل شىء قدير، يفتح لنا في رمضان أبواب الجنان، ويغلق أبواب النيران، وأشهد أن
سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، خير من صلى وصام، وأطعم الطعام وألان
الكلام، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-
واشكروه على تيسيره، قال تعالى: "هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ". [الحج:78]. وقال: "مَا
يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ" [المائدة:6]. ومن تيسيرِ
الله ورفعِه الحرج عنا: أن حدّد بدايات مواقيت العبادات ونهايتَها بعلامات
واضحة يعرِفُها كلُّ أحدٍ من العامة والمتعلمين. ومن ذلك: بدايةُ شهر رمضان
المبارك ونهايته، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا حتى تَرَوُا الهلالَ،
ولا تُفطروا حتى تروه؛ فإنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلُوا العُدَّةَ ثلاثين".
هذا وإن الجزائريين كغيرهم من غالبية الدول الإسلامية
على موعد مع تحرّي هلال شهر رمضان المعظم لهذا العام (يوم الاثنين 29
شعبان 1442هـ الموافق لـ 12 أفريل 2021 م). أهله الله علينا وعليكم بالأمن والإيمان
والسلامة والإسلام والفراغ من الأشغال والبعد عن الأسقام..
عباد الله: وإنّ غائباً يعود مرّة في العام لأهلٌّ أن يُتهيَّأ لاستقباله ويُستعدّ لقدومه، وبخاصةٍ إذا كان خيره وبركته عمِيمَين، وإن بلوغ رمضان نعمة عظيمة وفضل كبير من الله تعالى، حتى إن العبد ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه يسبق الشهداء في سبيل الله الذين لم يدركوا رمضان، فطوبى للمشمّرين.
فعن طلحة بن عبيد الله أن رجلين من بُلَىٍّ
قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا فكان أحدهما أشدَ
اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم توفي،
قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما فخرج خارج من
الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال:
ارجع فإنك لم يأن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وحدثوه الحديث، فقال: من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول
الله، هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله!. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى . قال: وأدرك
رمضان، فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة، قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض . رواه ابن ماجه
أيها المسلمون: إن بلوغ شهر رمضان من نِعَم
الله العظيمة على العبد المسلم؛ لأنه من مواسم الخير، تفتح فيه أبواب الجنان،
وتُغلق فيه أبواب النيران. وهو شهر القرآن، فحريٌّ بالمسلم أن يدعو ربَّه تعالى أن
يبلِّغه شهر رمضان على خير في دينه وفي بدنه، ويدعوه أن يعينه على طاعته فيه، وأن
يتقبل منه عمله، وكذلك كان السلف الصالح يفعلون. قال
معلى بن الفضل واصفا أحوال السلف مع رمضان:
"كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أخرى أن
يتقبل منهم".
ولكن للأسف انحرف فهمُ كثير من الناس لحقيقة الصيام فراحوا يجعلونه موسماً للأطعمة والأشربة والحلويات، واستعدوا لذلك قبل شهر رمضان بفترة طويلة خشية فوات بعض الأطعمة؛ أو خشية غلاء سعرها، وتراهم يجدّدون الأفرشة وأواني المطبخ، ويعيدون طلاء بيوتهم. وقد جهلوا - بحق – حقيقة الصيام في شهر رمضان، وسلخوا العبادة والتقوى عنه. ثم ها هي القنوات الفضائية تتبارى وتتسابق ـ إلا من رحم الله ـ في تزيين المنكرات وتجميل الباطل مستعينة بشياطينها الأنسية لتجدّد المنافسة ببث بعض المسلسلات والأفلام لستجتذب بعض الناس فتؤخرهم عن صلاة الجماعة وعن صلاة التراويح، فتحوّل المنافسة في شهر القرآن من منافسة في العبادة إلى منافسة في اللهو والتسلية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
أيها المسلمون: ولا
نعدو الحقيقة إن قلنا: إنّ هؤلاء وأولئك جانبوا الرشاد وحادوا عن الصواب إنهم
يجرّدون أيام رمضان ولياليه الثمينة من روحانيته، ويحولونه ميدانا يتسابقون فيه
إلى إشباع شهواتهم الجسدية والنفسية مبالغين ومسرفين. يذكر أنه: باع قوم من السلف جارية، فلما
اقترب شهر رمضان رأتهم يتأهّبون له ويستعدّون بالأطعمة وغيرها. فسألتهم عن سبب
ذلك؟ فقالوا: نتهيّأ لصيام رمضان. فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان! لقد كنت عند
قوم كل زمانهم رمضان، ردّوني عليهم.
ألا إنما الإستعداد للصيام ـ يا عباد الله ـ يكون بتنقية البطن
من الحرام وتطهير القلب من الآثام. فالصيام مخالفة للشهوات وليس مسابقة وتفرغا
واستعدادا للملهيات والمشتهيات.. إن الصيام عبادة لا شهوة، وإن الجنة حفّت
بالمكاره، وإن النار حفت بالشهوات. الصيام عبادة لا عادة، فلنكن رشداء فلا تذهب
أتعابنا سدى، ولتكن استقامتنا في هذا الشهر كفارة لما قبله وتدريبا لما بعده.
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على تهيئة الأجواء الإيمانية، واقتنصوا فرص الخير في شهر الخير،
فالشقي من حُرم الخير في شهر الخير. واستقبلوا هذا الشهر بالفرح والسرور
والإستبشار، واطرقوا أبواب الجنان بالتوبة والاستغفار والإنابة إلى الله واللجوء
إليه.. أطرقوا أبواب الجنان بالتضرع والوقوف على أعتاب بابه مرددين: "لن نبرح
بابك حتى تغفر لنا". أطرقوا أبواب الجنان بالصيام والقيام والصلاة بالليل
والناس نيام.. أطرقوا أبواب الجنان بالطاعات والقربات وبالإلحاح في الدعاء، فإن
أبا الدرداء كان يقول: "جِدّوا بالدعاء، فإنه من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح
له".
فاللهم بارك لنا فيما بقي من شعبان، وسلمنا إلى
رمضان وسلم لنا رمضان وتسلمه منا متقبلاً، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
فاستغفروه..
الخطبة
الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على
سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، عباد الله: فشهر رمضان أقبلت نسماته وهلت خيراته، تستعدّ فيه الجنة لاستقبال الصائمين من باب الريان، فعن سهل بن سعد عن
النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن في الجنة لبابا يدعى الريان يدعى له
الصائمون، فمن كان من الصائمين دخله، ومن دخله لم يظمأ أبدا".
فاستعدوا له ـ أيها المسلمون ـ استعداد الذي أُعطِي
الفرصة ليفوز برحمة الله وجنانه، ويحظى بعفوه وغفرانه، ويعتق نفسه من النيران.
هذا، واعلموا أن رمضان إنما جاء ليرهف الإحساس
ويسمو بالمشاعر ويرقى بالوجدان، ومن الأمور الفاضلة المعينة على ذلك والتي يغفل
عنها كثير من الناس في آخر شهر شعبان: الصدقة على الفقراء
وإعانتهم ليتقوّوا بذلك على مصاريف شهر رمضان، فكم من أناس - الله أعلم بحاجتهم
وفقرهم ـ "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف..". فاكسبوا الرهان في هذا
الميدان، فإذا كان رمضان يرهق جيب الغني الكاسب، فكيف حال الكاسد المعدوم، وذلك
واقع مشهود.. ولقد وردت أخبار كثيرة أن السلف رضوان الله عليهم أجمعين كانوا
يخرجون زكاة أموالهم في شهر شعبان، يتعجّلون بإخراجها قبل رمضان كفاية للفقير
والمسكين والمحتاج قبل رمضان حتى تعينهم الزكاة على الإستعداد لرمضان فلا ينشغلوا
بفقرهم وحاجتهم في الشهر الكريم، وبهذا فهُمْ قد اغتنموا وقتهم ووقت الفقير. قال
أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبُّوا على المصاحف فقرءوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقويةً لضعيفهم على الصوم".
هذا.. والمؤمن يتجاوب مع نداءات الفقراء والضعفاء،
متجاوزًا بمشاعره كل الفواصل، متسلقًا بمبادئه كل الحواجز، يتألم لألمهم ويحزن
لأحزانهم، مبتدئًا بالموالاة والمواساة من بيته وموطنه ولإخوانه من بني جلدته
صَحْبه وأقاربه، يستقبل رمضان بنفسٍ معطاءة ويد ٍبالخير فياضة، ويبسط يده بالصدقة
والإنفاق..
فيا ذوي الهمم العالية: لا تغفلوا عن نفحات
وبركات شهر شعبان، تلمّسوا ذوي الحاجات وأعينوهم، انتهزوا
هذه الفرصة، وقوموا بما يجب عليكم القيام به. وتسابقوا إلى الخيرات والطاعات،
واجعلوا من رمضان شفاء لنفوسكم، ومظهرا لوحدتكم، وتجديدا لصلتكم بدينكم..
أسأل الله أن يبارك لي ولكم في شعبان، وأن
يبلغنا شهر رمضان ويتسلمه منا متقبلا.. اللهم ارزقنا عمرا مديدا، وقولا سديدا،
وعملا صالحا كثيرا، اللهم أجزل لنا العطية، وأصلح لنا النية، وأحينا فيه الحياة
المرضية، وأعنا على أنفسنا حتى نستقيم على طاعتك.. اللهم واشمل بعفوك وغفرانك
ورحمتك آباءنا وأمهاتنا وجميع أرحامنا ومن كان له فضل علينا. اللهم وأدم على
الجزائر الأمن والأمان وعلى سائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل
اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. آمين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق